يونس الديدي: القمة العربية: إنسانية في الظاهر.. سياسية في الجوهر

يونس الديدي: القمة العربية: إنسانية في الظاهر.. سياسية في الجوهر

يونس الديدي
في كل مرة تجتمع القمم العربية، تخرج البيانات الختامية محمّلة بلغة الدعم والتضامن، لكن خلف الكلمات المنمّقة تكمن اعتبارات سياسية تحكم مسار القرارات. قمة القاهرة الطارئة، التي انعقدت وسط واحدة من أكثر الفترات حساسية في تاريخ القضية الفلسطينية، لم تكن استثناءً. البيان الختامي قدّم نفسه كاستجابة إنسانية عاجلة، لكنه في جوهره كان محاولة لإعادة هندسة المشهد الفلسطيني والإقليمي وفق رؤية تحكمها المصالح أكثر من المبادئ.

ما بين السطور: قراءة في نقاط البيان

إعادة إعمار غزة: المساعدات بشروط سياسية؟

أقرت القمة خطة مصرية لإعادة إعمار غزة، ودعت المجتمع الدولي والمؤسسات المالية لدعمها. في الظاهر، يبدو ذلك خطوة ضرورية لإنقاذ القطاع المنكوب، لكن السؤال الجوهري: من سيكون مسؤولًا عن إدارة هذه الأموال؟ ومن يقرر أولويات الإعمار؟ تاريخيًا، كانت مشاريع إعادة الإعمار في غزة خاضعة لتجاذبات سياسية بين السلطة الفلسطينية، الفصائل، والجهات الدولية. هذه النقطة سوف تجعل القاهرة أكثر نفوذاً في الملف الفلسطيني عبر إدارة هذا الملف الحساس، ما قد يُضعف موقف المقاومة الفلسطينية في تحديد أولويات إعادة البناء.

الانتخابات الفلسطينية: شرطها “الظروف المناسبة”

دعا البيان إلى إجراء انتخابات فلسطينية خلال عام، وهو مطلب يبدو ضروريًا لتجديد الشرعية السياسية في الضفة وغزة، لكنه مرهون بعبارة فضفاضة: “إذا توافرت الظروف المناسبة.” هذه الجملة تفتح الباب أمام تفسيرات متعددة، حيث يمكن استخدامها كأداة ضغط سياسي، ما يعني أن الأطراف الإقليمية والدولية ستقرر متى تكون الظروف “مناسبة” ومن يمكنه خوض الانتخابات. فهل هذه دعوة حقيقية لتمكين الفلسطينيين، أم محاولة لضبط إيقاع المشهد بما يخدم توازنات معينة؟

اللجنة الإدارية المؤقتة: حل انتقالي أم فرض وصاية؟

دعم البيان تشكيل لجنة من أبناء غزة لإدارة شؤون القطاع خلال المرحلة الانتقالية. رغم أن الفكرة تبدو عملية لمواجهة الفراغ الإداري، إلا أن طبيعة هذه اللجنة، وكيفية اختيار أعضائها، ومدى استقلاليتها عن الضغوط الإقليمية، تبقى نقاطًا غامضة. فهل الهدف هو تجاوز الانقسام الفلسطيني، أم إنشاء كيان إداري بديل يفرض واقعًا جديدًا قد يكون بعيدًا عن إرادة المقاومة؟

القمة وسؤال المقاومة: هل باتت عبئًا أم ضرورة؟

رغم أن القمة أكدت رفضها لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، إلا أن البيان لم يضع موقفًا واضحًا من المقاومة كحق مشروع للشعوب تحت الاحتلال. هذه الإشكالية تعكس أزمة الفهم العربي للمقاومة، حيث ينظر إليها البعض كتهديد للاستقرار الإقليمي، بينما هي في الواقع جزء من منظومة الحماية الذاتية للمنطقة.

النجاح الحقيقي لأي قمة عربية مستقبلية يجب أن يقوم على صياغة فهم مشترك للأولويات بعيدًا عن المسبقات، بحيث لا تُعامل المقاومة كخطر وجودي على دول عربية، بل كفرصة لحماية الأمن القومي العربي أمام مشاريع الهيمنة الإسرائيلية والغربية. لا يمكن تحقيق استقرار حقيقي دون الاعتراف بأن المقاومة ليست مجرد فصيل سياسي أو عسكري، بل تمثل جزءًا من معادلة الردع في المنطقة.

القمة في الميزان: هل أرضت إسرائيل أكثر مما دعمت فلسطين؟

غياب أي لهجة تصعيدية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعدم الإشارة إلى آليات محاسبة إسرائيل على جرائمها في غزة، يجعل البيان يبدو وكأنه مصاغ ليكون مقبولًا دوليًا أكثر من كونه معبرًا عن نبض الشارع العربي. السؤال هنا: لماذا لا تستطيع القمم العربية اتخاذ مواقف أكثر جرأة؟ ولماذا تبدو البيانات الختامية دومًا وكأنها تحاول إرضاء إسرائيل أكثر من الدفاع عن حقوق الفلسطينيين؟

خاتمة: نحو قمة عربية أكثر جرأة ووضوحًا

إذا أرادت القمم العربية أن تكون ذات تأثير حقيقي، فعليها أن تتخلى عن لغة العموميات، وتنتقل من ردود الفعل إلى استراتيجيات الفعل. يجب أن تكون الأولوية لحقوق الشعوب العربية والإسلامية المسحوقة، وليس لمعادلات التوازن مع القوى الكبرى. إعادة إعمار غزة يجب أن تكون جزءًا من مشروع حماية سياسي، وليس مجرد خطوة تخديرية. والمقاومة يجب أن تُعامل كعنصر قوة في المنطقة، وليس كملف يُدار وفق إملاءات خارجية.

القضية الفلسطينية ليست مجرد أزمة إنسانية، بل قضية تحرر وكرامة. وأي بيان ختامي لا يعكس هذه الحقيقة يبقى، في أحسن أحواله، مجرد وثيقة دبلوماسية بلا روح.

كاتب مغربي

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close