سوما حسان عبد القادر: مأسورات بحبهم.. احرار خلف القضبان.. رغم انف السجان
سوما حسان عبد القادر
هناك نوع من الأسر لا تراه العيون، لكنه يأسر الروح، يقيد القلب، ويجعل الزمن يدور في حلقة من الألم والشوق والترقب، ويجعل الانتظار زنزانة لا مفاتيح لها .لم يكن مجرد أسير خلف القضبان، بل كان عالمي الممتد خلف شاشة الهاتف، كان صوته حياة، وكان وجوده، حتى وإن كان بعيدا، اغلى ما في أيامي. كان يشاركني كل التفاصيل، رغم أن كانت تكرارا مؤلما لليوم، كانت حياته رتيبة لا جديد فيها سوى انتظار اليوم التالي. كنت أراه في كل شيء، كنت أشعر به رغم البعد، وكنت أسمع أنفاسه كأنها امتداد لأنفاسي.
في كل ليلة، كنت أنتظر اتصاله كما ينتظر العطِش قطرة ماء في صحراء قاحلة. كنا نعيش معا رغم المسافات، نقتسم تفاصيل الأيام، حتى لو لم يكن في حياته جديد سوى قيود وأسوار، وحتى لو لم يكن في حياتي شيء يستحق سوى صوته. لم يكن مجرد أسير، كان رجلا بألف رجل، كان الحنان رغم قسوة السجان، والأمان رغم الغياب، والسند رغم الجدران الفاصلة بيننا.
في عالم يحسبون فيه أن السجن يقتل الحياة، كنت أجدها معه. كان يرسل لي الهدايا رغم أنه محروم منها، كان يغرقني بالورود ، رغم أن زنزانته لا تعرف سوى الحديد والغبار. كنت أراه في كل تفاصيل يومي، يرافقني حتى في صمتي، وكان يكفي أن أسمع صوته حتى يخفق قلبي كما لو كان يركض نحوي.
أحببت اسيرا، نعم احببته اسيرا رغم كل الاحرار ، احببته كما لم أحب أحدا من قبل، ليس لأن غيابه جعل منه أسطورة، بل لأن حضوره رغم السجن كان أعمق وأصدق من كل من ظننتهم أحرارا.كان رجلا رغم القيد، كان الأمان رغم الجدران والمسافات ، كان العطاء رغم الحرمان، وكان الصوت الذي يملأ أيامي رغم أن صوته كان محاصرا. كان وطني الذي لم أراه يوما.
لكن رغم أنف السجان، لا يموت الحب، ولا تنطفئ الأحلام. الأسرى هناك ليسوا أرقاما باردة في سجلات الاحتلال، بل هم أبطال، يحلمون رغم القيود، يعشقون رغم العتمة، يصنعون الحياة من اللاشيء، ويكتبون على الجدران أن الحب أقوى من القيد. رغم القضبان، يبتسمون للحياة، يتزوجون، يعقدون عهود الوفاء، يرسلون نُطفهم المهربة، فيولد أطفال الحرية الذين لم يعرفوا آباءهم إلا عبر الزجاج، ولكنهم ولدوا ليكونوا شمسا تشرق على هذا الوطن.
السجان يظن أنه إذا سجننا سنموت، وأن القضبان ستقتل فينا الحياة، لكنه لا يعرف أننا نحيا بكل جوارحنا، بوطننا المغروس في أعماقنا، بمعتقداتنا التي لا تهتز، بحبنا الذي لا ينكسر، بإرادتنا التي لا تنطفئ، وبإصرارنا الذي يحيي من ينتظرنا. لا يعرف أننا رغم الأسلاك الشائكة، نحب، ونحلم، ونكبر، ونحيا كما لم يحيا هو يوما. لا يعرف أن السجن لا يقتل إلا الضعفاء، وأن من حملوا في قلوبهم فلسطين لا يعرفون الموت، بل يعرفون كيف يزرعون الحياة حتى في أضيق الزنازين.
نحن شعب لا يعرف المستحيل، لا ينكسر، لا يستسلم. حتى لو أغلقوا بها، وسنعيشها في قلوبنا
لكن في لحظة واحدة، انطفأ كل شيء. جاء السابع من أكتوبر كزلزال هز كل المعاني، وقطع كل خيط بيننا. فجأة، لم يعد هناك اتصال، لم تعد هناك كلمات، لم أعد أعرف إن كان لا يزال هناك… أم أن الصمت أصبح مكانه الأبدي. كنت أنتظر، ولا زلت.
كل يوم أكتب له رسالة، ليس لأنني واثقة أنها ستصل، ولكن لأنني أرفض أن أصدق أنه قد لا يقرأها يوما. أحدثه عن خوفي، عن انتظاري، عن ليال صارت أطول من العمر نفسه. في كل مرة يرن هاتفي، أقف بين الرجاء والرهبة، أبحث عن اسمه الذي كان الأجمل، وأخشى أن لا أسمع صوته مجددا.
الانتظار سجن قاسي لا يقل قسوة عن من يعيش خلف القضبان ، قسوة لأنه بلا نهاية معلومة. لا احد منا يعلم متى يأتي الفرج، ولا إن كان سيأتي يوما. لكنك تنتظر، ليس لأنك اخترت ذلك، بل لأنهم يستحقوا الانتظار ،و لا
نعرف طريقا آخر.
أرسل الكلمات إلى الفراغ، وأرجو أن تصل. كم مر من الوقت؟ لا أعرف. لكني أعرف أن الانتظار يسرق العمر، ويجعل من الدقائق أعواما، ومن الساعات سجونا داخل سجون.
لقد كتب على بعضهم أن يكونوا أسرى خلف القضبان، وكتب على آخرين أن يكونوا أسرى بحبهم. وما بين جدار وجدار، ما بين انتظار وانتظار، يبقى الأمل كالغائب الذي لا نعرف متى يعود، لكنه وعدٌ لا يخلفه الله.
إلى كل أسير هناك، أنتم في القلب، أنتم الأحرار ونحن السجناء. وإن كنتم محاصرين بجدران وقضبان من الحديد، فنحن محاصرون بذكراكم، بأصواتكم العالقة في ذاكرتنا، بصوركم التي لا تغيب عن مخيلتنا. وإن كان الفراق قد خطفكم منا، فدعواتنا تطارد السماء بأن يعيدكم إلينا.
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: