ناهد نجار: لكن أنا قلبي مع الأول: درس من التاريخ 

ناهد نجار: لكن أنا قلبي مع الأول: درس من التاريخ 

 
 
ناهد نجار
 
بعد القمة العربية التي تأخرت كثيرا رغم أنها كانت (طارئة) لا أدري لماذا تفاءلت مع أن هناك ألف سبب للإحباط واليأس. وتأملت بعمق ما تشهده منطقتنا من ضعف وعجز وتيه.
حاولت أن أكتب لكني لم أعرف من أين أبدأ وكلما كتبت فقرة وجدت نفسي عاجزة عن ربطها بما قبلها من أفكار، فأعاود الكرة وأكتب من جديد وأقع في نفس المتاهة، فكل ما يدور حولي من أخبار مبعثر ومشرذم وليس فيه أي منطق وقد لا يخضع للتحليلات السياسية والأكاديمية.
لكنني اليوم قررت أن أبدأ بالتاريخ لأن فيه الإجابة عن كل التساؤلات.
العرب، أي القادة وليس الشعوب، قبلوا بأمريكا في بلادنا، لكن لا أدري تحت أي مسمى: فهل نحن حلفاء أم أصدقاء أم متعاونين. أطرح هذا التساؤل لأنني لا أجد توصيفا واضحا لهذه العلاقة مقارنة مع علاقة أمريكا بإسرائيل.
هذا التساؤل جعلني أعود إلى التاريخ وتحديدا تاريخ أمريكا  
ساد في القرن التاسع عشر في أمريكا اعتقاد غريب سمي بـ(المصير المحتوم) – Manifest Destiny – ويقضي بأن المستوطنين الأوروبيين البيض “كُلفوا إلهيًا لاستيطان قارة أمريكا الشمالية بأكملها”. وشجعت تلك الأيديولوجية مشروع البدء بتدمير بيئة أبناء المنطقة الأصليين وتهجيرهم وإبادتهم، كما بررت التوسع الجغرافي على حساب أهل البلد، مما أشعل حربا طويلة توسع معها مفهوم النزعة القومية، والفرص الاقتصادية. وساعد في هذا الاعتقاد بأن الحكومة الأمريكية وأتباعها، رغم كل ما اقترفته من جرائم إبادة، متفوقة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
وشهد المشروع الاستيطاني الأمريكي مقاومة امتدت من 1816 إلى 1890 قتل فيها الملايين من المواطنين، وأخذت المقاومة أشكالا متعددة، شملت النزاعات المسلحة، والتحالفات الاستراتيجية، والمعارك القانونية، والصمود الثقافي.
ورغم المقاومة الصلبة، استمر التوسع الاستيطاني الأمريكي الذي اعتمد على التفوق العسكري، فالمحاربون من السكان الأصليين رغم مهارتهم في القتال كانوا يفتقرون إلى الأسلحة المتقدمة والأعداد والموارد التي امتلكها الجيش الأمريكي، الذي كان يستخدم البنادق والمدفعية، بينما اعتمدت الشعوب الأصلية على الرماح والنبال وبعض الأسلحة النارية المحدودة.
ويذكر التاريخ أن من أهم أسباب فقد المواطنين سيادتهم وأراضيهم “الانقسامات” بين القبائل، إذ لم تكن قوة موحدة، وتحالف بعض منها مع الحكومة الأمريكية مما أضعف جهود المقاومة وسهّل على المستوطنين والحكومة الأمريكية السيطرة على الأراضي والبدء في خطة التهجير القسري.
ولعل من الأسباب الجوهرية أيضا استناد السياسات الأمريكية على نقض المعاهدات. وهنا أريد أن أضع خطا تحت هذه الجملة – إذ سرعان ما انتهكت الحكومة الأمريكية المعاهدات التي وقعتها مع القبائل الأصلية.
وهناك أيضا العامل الصحي والاقتصادي. فالأمراض الأوروبية الوافدة، مثل الجدري والحصبة والإنفلونزا التي دخلت مع المستوطنين إلى القارة الأمريكية، قضت على أعداد كبيرة من المواطنين الأصليين.
كما دمرت الولايات المتحدة اقتصادات المواطنين الأصليين من خلال الإفراط في صيد الجاموس الذي كانت تعتمد عليه القبائل في حياتها، فأبادته واستولت على الأراضي، وقطعت طرق التجارة.
وفرضت بالقوة التطهير العرقي وأنشأت معازل وهجرت إليها أبناء المنطقة وأطلقت عليها اسم “محميات” كانت تقع غالبا في أراضٍ فقيرة بموارد محدودة. وفرضت الولايات المتحدة سيطرتها على تنقلاتهم وإمداداتهم الغذائية واقتصادهم، مما جعل استمرار المقاومة أكثر صعوبة.
وكانت الحرب النفسية والمجازر سلاحا فتاكا استخدم فيه الجيش الأمريكي تكتيكات وحشية، بما في ذلك استهداف النساء والأطفال وقطع الإمدادات الغذائية لإضعاف المقاومة.
هذه هي نشأة أمريكا التي قبلناها وسيطا وقبلناها حكما. ألا تذكرنا بمشروع استيطاني آخر؟
طبعا هناك فارق بين الحالتين رغم أن المشروع واحد، فإسرائيل تكاد بنهجها تماثل تماما وربما أحيانا تتفوق على أمريكا بأساليب القتل والتدمير، واستهداف الناس والحجر فالبنى التحتية للمواطنين الفلسطينيين ومجتمعاتهم الحضرية كالمدارس والمستشفيات والشوارع هدف لها في كل مواجهة.
أمريكا اعتمدت على مؤسسات إنسانية وقانونية وأكاديمية تحمي البلاد من العودة إلى العنصرية والاستبداد، لكن إسرائيل تهوي نحو الفاشية التي تهدد أركانها وترغب في جر أمريكا معها نحو الهاوية.
وانهيار الدول يبدأ بانهيار الأخلاق، وإسرائيل اليوم ينطبق عليها ما جاء في الذكر الحكيم في سورة الشمس (إذ انبعث أشقاها) أما أمريكا فينطبق عليها (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى).
إسرائيل، وعلى مدى 516 يوما وحتى كتابة هذا المقال وفي ظل صمت عالمي وعربي قاتل، شنت حربا مجنونة على غزة ودمرت بكل وحشية وبشكل ممنهج المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والمباني على كل من في داخلها وقطعت أوصال الطرق والشوارع والمجاري ومحطات المياه والكهرباء، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها المركزية. فهي لم تستطع تفكيك المقاومة الفلسطينية، ولم تستطع كي الوعي الفلسطيني وتفكيك المجتمع، ولم تستطع فرض إرادتها. وانتقلت بكل وقاحة إلى الضفة الغربية لتمارس شهية القتل والتدمير والتهجير الممنهج للمواطنين.
ولا زلنا نحن العرب نستجدي الحل من أمريكا.
لقد هز زلزال (طوفان الأقصى) بدون أدنى شك أركان المشروع الصهيوني المتمثل في إسرائيل التي باتت متأكدة ولأول مرة أن معركتها معركة وجود – (إما نحن وإما هم) – وهذا لم يعد ينطبق على إسرائيل فقط بل أصبح ينطبق اليوم على الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
فماذا نحن فاعلون؟
ما الذي يمكن اتخاذه لنجاح المقاومة الفلسطينية وإفشال مشروع الهيمنة الإسرائيلية وتهويد فلسطين والمنطقة العربية وتفادي خطر محاولات الإبادة والتهويد كما حدث مع المواطنين الأصليين في أمريكا؟
في ظل ما تقدم علينا أن نتعلم من دروس التاريخ.
يمكن للقادة العرب رسم استراتيجية واضحة وممنهجة تجمع بين السياسية، والدعم الدولي، والصمود الشعبي.
ومن الأولويات لتحقيق مقاومة أكثر فعالية علينا فلسطينيا أولا توحيد الفصائل الفلسطينية، فالانقسامات مثلا بين حماس وفتح وباقي الفصائل تُضعف المقاومة، وإنشاء قيادة موحدة برؤية واضحة للمستقبل تعزز الموقف الفلسطيني في المفاوضات والدبلوماسية الدولية.
ثانيا التحرك الدبلوماسي والقانوني الدولي عن طريق تعزيز العلاقات مع مؤسسات مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC) والأمم المتحدة (UN) لمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. وتوسيع الاعتراف الدبلوماسي وكسب دعم الدول المؤيدة للسيادة الفلسطينية. واستغلال الزخم القانوني السلمي، كما فعلت جنوب إفريقيا لمواجهة نظام الفصل العنصري عبر الضغط الدولي.
ثالثا: تعزيز المقاومة المسلحة والسلمية فالاحتجاجات الجماهيرية، والمقاطعة، والعصيان المدني كلها أدوات فعالة يمكن أن تحقق تأثيرًا كبيرًا. فحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) تنجح فعليا في ممارسة ضغط سياسي واقتصادي على إسرائيل.
التجارب التاريخية تؤكد أن المقاومة السلمية المستمرة يمكن أن تكون فعالة للغاية، مثل مقاومة غاندي في الهند وحركة الحقوق المدنية في أمريكا. أما عسكريا فالتكيف العسكري والاستراتيجي من أهم عناصر التحدي الناجح، وتجربة حماس تجربة يمكن أن يبنى عليها بسبب تنظيمها الفعال وقدرتها المؤثرة. فقد أظهرت حركات المقاومة في التاريخ، مثل الفيتناميين ضد الولايات المتحدة والجزائريين ضد فرنسا، أن الاستراتيجية المنظمة المستمرة يمكن أن تتحدى حتى القوى العسكرية الكبرى.
لكن يجب أن تكون المقاومة الشعبية رديفا للمقاومة المسلحة حتى لا تضعف الدعم الدولي. وباختصار فإن التحدي الرئيسي هو الحفاظ على المقاومة دون تكبد خسائر مفرطة، وضمان استدامتها على المدى الطويل.
رابعا: الإعلام والتوعية الجماهيرية فالسيطرة على السرد الإعلامي أمر حاسم. ويجب على الفلسطينيين تعزيز صوتهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة والدبلوماسية الدولية. بالإضافة إلى فضح انتهاكات حقوق الإنسان وبناء تعاطف عالمي يمكن أن يزيد من الضغط على إسرائيل.
خامسا: بناء تحالفات إقليمية ودولية، وتقوية العلاقات مع الدول العربية والإسلامية والدول الغربية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية. وكذلك الضغط على القوى الكبرى لفرض عقوبات على إسرائيل أو تقليل دعمها العسكري لها.
سادسا: تحقيق الاستقلال الاقتصادي وتعزيز الصمود، فإسرائيل تتحكم في أجزاء كبيرة من الاقتصاد الفلسطيني، مما يجعل الفلسطينيين عرضة للحصار والقيود. ومساعدة الفلسطينيين على تطوير الصناعات المحلية وإيجاد بدائل تجارية يقلل من الاعتماد على إسرائيل.
وأخيرا تعزيز قوة المجتمع المحلي فالاستثمار في التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية يضمن القدرة على الصمود على المدى الطويل. وتعزيز الهوية والثقافة الفلسطينية للحفاظ على المعنويات والوحدة رغم الاحتلال.
 
أعود الآن إلى القمة العربية التي أخذت على عاتقها القضية الفلسطينية وأتساءل ما قيمة الخطة العربية والإسلامية عند رفضها إسرائيليا أو أمريكيا، وما هي خطتنا البديلة؟ فالمحتل دائما يقيس خطوته بميزان الربح والخسارة.
وما الذي يضطر إسرائيل إلى قبول الخطة العربية؟ وما الذي يضطر واشنطن وحلفاءها إلى الضغط على إسرائيل إن كان الثمن صفرا؟
تتميز الدول العربية بنفوذ كبير بسمح لها بفرض شروطها ووقف أي مخطط للتهجير أو الإبادة بالقتل والتجويع.
وتستطيع لو أرادت حل القضية الفلسطينية من جذورها وضمان حق العودة وبحث إمكانية حل الدولة الواحدة لشعبين أو حل الدولتين الذي بات مستبعدا في ظل التوسع الاستيطاني الذي أخذ مباركة أمريكية عقب تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخاصة بغزة والضفة.
فالأردن يعد من أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي في عام 2021، التي تستطيع بموجبها القوات الأمريكية والمركبات والطائرات الدخول والتحرك في جميع أنحاء الأردن. وأي قرار ضد مصلحة الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي غزة يعرض أمن الأردن واستقراره للخطر، وهذا يعني أن القواعد الأمريكية في خطر.
ومصر أيضا لديها اتفاقية سلام مع إسرائيل وأي مساس بأمنها القومي وتهديد الوضع القائم يعني انتهاء معاهدة السلام.
 
ونذكّر هنا بنفوذ كبير يتمثل في التعاون الاستخباراتي بين الدول العربية والولايات المتحدة.
أضف إلى هذا الدعم المالي من دول الخليج لاستثمارات ترامب في المنطقة، فضلا عن العلاقات الوثيقة بين السعودية وعائلة ترامب.
 
من المفهوم أن تكون القيادة العربية غير راغبة في التصادم مع ترامب، لكن الواقع نفسه يساعدهم، فما يطرحه ترامب لا ينسجم مع الحقائق على الأرض ولا مع القانون الدولي والإنساني وحتى الأمني.
الحقائق على الأرض أكدت أن الشعب الفلسطيني الذي تحمل 15 شهرا من محاولات الإبادة والتطهير العرقي لن يرضخ لمحاولات التهجير القسري أو (الطوعي) وبات يؤمن أن المقاومة الشعبية والمسلحة هي الطريق الوحيد لإزالة الاحتلال.
والمقاومة الفلسطينية التي عانت 15 عاما من الحصار والتنكيل في غزة انتفضت في السابع من أكتوبر 2023 لترد على الاحتلال وتؤكد أنه لا أمان واستقرار مع استمرار الاحتلال، جاءت ردا على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ، فأطلقت على عمليتها إسم (طوفان الأقصى).
 
وهناك ميزة مهمة للوقوف في وجه تصريحات ترامب، وهي الوحدة العربية والموقف الموحد والحاسم في طرح خطة واضحة لحماية الحق الفلسطيني وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة. ففلسطين خط دفاع أول لو تضعضع تضعضعت معه السيادة العربية.
 
رحم الله الإمام ابن القيم الذي قال في قصيدته في وصف الجنة (إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم).
طوفان الأقصى زلزل الكيان المحتل ولم يعد السؤال هنا إن كانت الصهيونية ستفشل بل متى؟ وستسعى أمريكا وإسرائيل إلى الاستعانة بالعرب لإنقاذ المشروع، فاللعب اليوم بات على المكشوف، والبقاء للأقوى والمقاومة هي البديل عن الجيوش فلنتمسك بها طريقا فهي الخيار الوحيد الذي تبقى لنا.
صحفية فلسطينية

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close