رباب طلعت
عندما تشاهد عملًا للمخرج اليوناني يورجوس لانثيموس، عليك أن تخلع منطقك عند أعتابه. منذ اللحظة الأولى، تدرك أنك ستبحر في عالم خاص، حيث العبثية شديدة الإتقان، والجمال الغرائبي يفرض نفسه دون تفسير. لن تتساءل لماذا تظهر لك على الشاشة بطة برأس خنزير، أو كلب برأس ماعز، أو حتى امرأة بعقل طفلة—فأنت في عالم لا يخضع لمنطق الواقع.
تلك العبثية ذاتها تجدها في أعمال مخرجي المدرسة السيريالية، وعلى رأسهم ديفيد لينش، الذي يبني عوالم وصفها مرارًا بأنها أماكن يفضل أن يتوه فيها ولو مرة واحدة. سينماه أقرب إلى لوحات غير مكتملة، تفيض بالتشوهات التي تعكس ظلام النفس البشرية وأفكارها، ومع ذلك، تجد نفسك مأخوذًا بها، تعيد مشاهدها مرارًا، ربما لأنها تمنحك فرصة للتيه في عالم آخر، كما أراد مخرجها.
في قلب العبثية: مسلسل «إخواتي»
نفس الإحساس الغرائبي يسيطر على مسلسل «إخواتي»، المعروض في الموسم الدرامي لرمضان 2025، حيث تتبع القصة رحلة الشقيقات الأربع (نجلاء، ناهد، أحلام، سهى) وأزواجهن (هشام، فرحات، عابدين، وربيع)، في عالم لا يخضع للمنطق، لكنه يجذبك رغم ذلك.
لغز يتحدى المنطق
تنطلق الأحداث بجريمة غامضة مرتبطة بالشقيقة الصغرى أحلام، التي تبدأ بالتحقق تباعًا، بين السيئ منها والجيد. ورغم أنها مجرد أحلام، تجد نفسها متورطة في الجريمة، وشقيقتها تصر على إخفاء الجثة، خوفًا عليها، بدلًا من البحث عن القاتل الحقيقي. تصرف غير منطقي، لكنه يمر بسلاسة داخل عالم المسلسل، حيث يُجبرك على تعليق إحساسك بالواقع، لتكمل الرحلة حتى الحلقة قبل الأخيرة، حين يتم كشف اللغز بطريقة تعيد بعض المنطق إلى الأحداث.
فرحات.. الورقة الرابحة
تمتد العبثية إلى جميع شخصيات المسلسل، لكن أبرزها هو فرحات (حاتم صلاح)، التُربي المستغل، الذي لا يتردد في السرقة، ويبيع جثث الموتى ليسترزق منها، لكنه مع ذلك، شخصية لا يمكنك كرهها. حبّه الجنوني لـ ناهد (كندة علوش) يجعله يفعل المستحيل لإسعادها، حتى إنه يحضر لها طفلًا «ملفوفًا كهدية»، بعدما خطفه من ملجأ، ليحقق لها حلم الأمومة! رغم كل صفاته السيئة، تجد نفسك متعاطفًا معه، مأخوذًا بعبثيته، منتظرًا ظهوره، لأنك ببساطة ستضحك كلما رأيته. إنه التجسيد الحي للعبث، والورقة الرابحة للمسلسل.
عابدين.. حتى الحزن لا يدوم طويلًا
في ظهور غير عابر أبدًا، يجسد محمد ممدوح دور عابدين، العاشق الصادق لأحلام، التي تعمل سائقة أوبر لتعيل طفليها بعد وفاة زوجها. ورغم محاولاته المتكررة للزواج منها، لا توافق إلا تحت ضغط الظروف لإنقاذ شقيقتها، لكنه يموت يوم زفافهما «من الفرحة»!
المفارقة الساخرة تجعله واحدًا من أقوى مشاهد المسلسل، لكن الغرابة لا تتوقف هنا—فبعد هذا المشهد المأساوي، لا يطول الحزن، وسرعان ما تنتقل الأحداث بسلاسة إلى رحلة الأخوات في التخلص من جثة الزوج، دون أي ثقل درامي.
شيرين.. صوت العبث؟
الحالة العبثية للمسلسل لم تكتمل إلا بإقحام اسم شيرين عبدالوهاب، حيث تصفها سهى (نيللي كريم) في أحد المشاهد بأنها «صوت مصر»، وكأن المخرج محمد شاكر خضير يوجّه تحيةً لصاحبة التجربة الدرامية الوحيدة «طريقي». إدخال شيرين في هذا السياق لم يكن عشوائيًا، فشخصيتها العفوية والجريئة والموهوبة، بكل تناقضاتها، تشبه بطلات العمل، وكأنها تجسيد حي لفكرته العبثية.
في النهاية.. عبث ممتع
نجح محمد شاكر خضير في تقديم عمل خارج عن المألوف، يتحدى المنطق، ويتحرر من قيود الزمان والمكان. ورغم غرائبيته، فإنه يشدّك لمتابعته حتى النهاية، لأن العبث، حين يُقدَّم بهذه المهارة، يصبح أكثر إمتاعًا من الواقع نفسه.