نجاح محمد علي: أنصار الله: من جبال صعدة إلى البحر الأحمر… قوة تُعيد رسم معادلات الصراع

نجاح محمد علي: أنصار الله: من جبال صعدة إلى البحر الأحمر… قوة تُعيد رسم معادلات الصراع

 
 
نجاح محمد علي
مرة أخرى يؤكد أنصار الله أنهم قوة فاعلة لا يمكن تجاوزها في ايجاد خارطة جديدة للمنطقة ، في المشهد اليمني أو في إطار محور المقاومة الذي أعاد رسم معادلات الصراع في الإقليم.
ما كان يُنظر إليها سابقًا كحركة تمرد محلية ذات طابع قبلي أو مذهبي، أصبحت اليوم قوة عسكرية وسياسية قادرة على فرض واقع جديد يتجاوز حدود اليمن ليؤثر في معادلات الأمن الإقليمي والدولي. هذه التحولات لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة طبيعية لمسار طويل من الصراع والتكيف مع الضغوط، والتطور الاستراتيجي الذي مكّن أنصار الله من التحول من جماعة محاصرة في جبال صعدة إلى لاعب إقليمي رئيس قادر على تهديد ممرات الملاحة الدولية وضرب أهداف حساسة على بُعد آلاف الكيلومترات ، وتوظيف كل ذلك ، لصالح القضية الفلسطينية.
حين قرر أنصار الله الدخول في معادلة الردع الإقليمي لصالح الفلسطينيين عبر استهداف ملاحة العدو الصهيوني في البحر الأحمر، لم يكن الأمر مجرد خطوة تكتيكية أو استجابة لحالة آنية، بل كان امتدادًا لنهج استراتيجي يستند إلى رؤية واضحة في إطار المواجهة الشاملة مع المشروع الصهيوني.
الرسائل التي حملتها العمليات العسكرية لأنصار الله كانت متعددة المستويات، فمن جهة أكدت  الحركة ومن يتحالف معها في القيادة بصنعاء  ، أن زمن الهيمنة المطلقة على البحر الأحمر قد انتهى، وأن أي تحرك {إسرائيلي}  في المنطقة لن يكون آمنًا بعد اليوم. ومن جهة أخرى، كشفت عن هشاشة النظام الأمني الذي لطالما روّجت له الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، والذي ظهر عاجزًا عن حماية مصالح الكيان الصهيوني رغم الجهود العسكرية والاستخباراتية المكثفة.
الدعم الإيراني لحركات المقاومة، (الذي انحصر مع أنصار الله في الإعلام والمبادرات السياسية بسبب نوع الحصار المطلق المفروض على صنعاء) ، لم يكن مجرد دعم تقليدي قائم على الإسناد العسكري واللوجستي، بل هو جزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى خلق توازن جديد في المنطقة يُعيد رسم خطوط الاشتباك مع المشروع الصهيوني والأمريكي.
هذا الدعم لم يكن يومًا مجرد قرار سياسي عابر، بل هو جزء من العقيدة الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية التي رأت منذ انتصار ثورتها العام 1979 أن المواجهة مع الكيان الصهيوني ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية تفرضها طبيعة الصراع في المنطقة . إيران أدركت مبكرًا أن أي تهاون في مواجهة المشروع الصهيوني يعني تمكينه من تحقيق اختراقات استراتيجية تمس الأمن القومي الإيراني ومجمل أمن محور المقاومة.
في هذا السياق، فإن العلاقة بين طهران وأنصار الله لم تُبنَ فقط على أساس الولاء الأيديولوجي لقضية فلسطين، وإنما على أسس براغماتية تستند إلى المصالح المشتركة والرؤية الموحدة لمستقبل المنطقة.
أنصار الله، رغم استقلاليتهم في القرار السياسي والعسكري، وجدوا في إيران حليفًا استراتيجيًا يُمكنهم من تعزيز موقعهم الإقليمي، مع التأكيد أن التطور الملحوظ الذي شهدته قدراتهم العسكرية، سواء على مستوى الصواريخ الباليستية أو الطائرات المسيّرة أو حتى تكتيكات الحرب البحرية التي باتت تشكل تهديدًا حقيقيًا للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، كان ذاتياً.
ولقد أثبت انصار الله منذ مبادرتهم بمساندة غزة بعد عملية طوفان الأقصى أن  المقاومة في المنطقة لم تعد محصورة في جغرافيا محددة، بل تحولت إلى منظومة مترابطة تمتد من غزة إلى بيروت، ومن دمشق إلى صنعاء، ومن بغداد إلى طهران. هذه المنظومة نجحت في فرض قواعد جديدة للاشتباك، حيث لم يعد بإمكان العدو تنفيذ عمليات عدوانية دون أن يواجه ردًّا موجعًا في أكثر من جبهة.
وما يحدث اليوم في البحر الأحمر ليس مجرد استعراض قوة، بل هو جزء من هذه المنظومة التي تسعى إلى جعل الكيان الصهيوني يدفع ثمنًا باهظًا لكل سياساته العدوانية، سواء في فلسطين أو في أي نقطة أخرى من الإقليم.
الحرب على اليمن، التي كانت تهدف في بداياتها إلى سحق أنصار الله وإعادتهم إلى نقطة الصفر، تحولت إلى فرصة ذهبية مكّنتهم من تطوير قدراتهم وتوسيع نفوذهم. و التحالف الذي قاد الحرب، بدعم أمريكي وبريطاني مباشر، لم يدرك أن الحرب التي اعتقد أنها ستكون خاطفة وسريعة، ستتحول إلى مستنقع يستنزف قدراته ويُعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة.
اليمن، الذي كان يُنظر إليه تقليديًا كمجرد ساحة صراع هامشية، أصبح اليوم محورًا استراتيجيًا قادرًا على تهديد أمن الملاحة الدولية والتأثير المباشر في معادلات الصراع مع الكيان الصهيوني.
الولايات المتحدة، التي لطالما رأت في البحر الأحمر ممرًا استراتيجيًا محميًا بموجب تحالفاتها الإقليمية، وجدت نفسها أمام معضلة غير مسبوقة. إذ لم تحقق محاولاتها لحشد تحالف دولي لمواجهة تهديدات أنصار الله ، النتائج المرجوة، ليس فقط بسبب التحديات العسكرية التي تواجهها، ولكن أيضًا بسبب المعادلات السياسية المعقدة التي فرضها الواقع الجديد.
كما أن الدول التي كانت تتعامل مع واشنطن باعتبارها القوة المهيمنة في المنطقة، باتت تدرك أن التوازنات تغيرت، وأن أي مواجهة واسعة لن تكون بلا تكلفة. الكيان الصهيوني، الذي اعتاد الاعتماد على الدعم الأمريكي المطلق، بات يدرك أن زمن العمليات العسكرية الخاطفة قد ولّى، وأنه يواجه اليوم تهديدًا حقيقيًا على أكثر من جبهة، من غزة إلى لبنان، ومن العراق إلى اليمن.
في ظل هذا الواقع، تبرز إيران كلاعب رئيس ليس فقط في دعم المقاومة، ولكن في إعادة تشكيل الاستراتيجيات الإقليمية. طهران لم تعمل فقط من خلال الحلفاء كما يروج أعداؤها ، بل باتت طرفًا مباشرًا في المواجهة، سواء من خلال دعمها اللوجستي والتقني للمقاومة، أو عبر حضورها السياسي والدبلوماسي الذي نجح في خلق شبكة تحالفات دولية تقيّد التحركات الأمريكية والصهيونية.
هذه الاستراتيجية، التي أثبتت فعاليتها في أكثر من ساحة، جعلت الكيان الصهيوني وحلفاءه يواجهون مأزقًا غير مسبوق، حيث لم تعد لديهم القدرة على حسم المعارك بالطريقة التي اعتادوا عليها، بل باتوا يخوضون حروب استنزاف ممتدة تستنزف مواردهم وتضعف هيمنتهم.
المقاومة، بكل مكوناتها، لم تعد مجرد رد فعل على العدوان، بل أصبحت قوة قادرة على فرض وقائع جديدة. و العمليات التي تنفذها أنصار الله ليست مجرد ردود أفعال عشوائية، بل هي جزء من استراتيجية متكاملة تهدف إلى تغيير معادلات القوة في المنطقة.
ورما يحدث اليوم في البحر الأحمر ليس سوى مثال على التحولات الكبرى التي يشهدها الصراع، وهو صراع لم يعد فيه التفوق التكنولوجي وحده كافيًا لتحقيق النصر، بل باتت الإرادة والصمود والقدرة على التكيف مع المتغيرات هي العوامل الحاسمة في تحديد مسار المواجهة.
و ما من شك فإن المستقبل لن يكون كما كان، والكيان الصهيوني، الذي اعتاد على فرض هيمنته بالقوة، بات يواجه تحديات غير مسبوقة تجبره على إعادة التفكير في استراتيجياته.  و أنصار الله، كما حزب الله وحماس والفصائل العراقية، أصبحوا جزءًا من منظومة مقاومة مترابطة تتشارك المعلومات والتكتيكات وتدير الصراع بعقلية مختلفة عن السابق. هذه المنظومة، التي نجحت في تحويل نقاط ضعفها إلى مصادر قوة، باتت تمتلك زمام المبادرة في أكثر من جبهة، ما يجعل الأيام القادمة حبلى بمفاجآت قد تغير معادلات الصراع جذريًا.
المعركة اليوم ليست فقط معركة سلاح، بل هي معركة إرادة واستراتيجية. الكيان الصهيوني، الذي طالما اعتمد على التفوق العسكري والدعم الغربي المطلق، بات يواجه واقعًا جديدًا لم يكن في حسبانه. محور المقاومة، الذي كان يُنظر إليه كمجموعة من الفصائل المتفرقة، أصبح اليوم قوة إقليمية متماسكة قادرة على فرض كلمتها. وما يجري اليوم في البحر الأحمر ليس سوى فصل جديد من معركة طويلة لم تنتهِ بعد، لكنها تقترب أكثر من أي وقت مضى من تحقيق تحول استراتيجي قد يُعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة بأسرها.
كاتب عراقي

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close