الفرزدق وجرير.. صراع الفخر والهجاء في الشعر العربي

يُعد الفخر والهجاء من أبرز الأغراض الشعرية التي ميّزت العصر الأموي، وقد تجلّت هذه الخصائص بوضوح في شعر كل من الفرزدق وجرير، حيث اشتهر كلاهما بمنافستهما الحادة التي شكلت واحدة من أشهر المعارك الأدبية في التاريخ العربي.

كان الفخر سمة بارزة في شعر الفرزدق، حيث لم يكتفِ بالافتخار بقومه وأجداده، بل امتد فخره إلى ذاته وشعره، متّبعًا أسلوب شعراء الجاهلية الذين كانوا يتباهون بأنسابهم وأمجادهم. وقد بلغ به الفخر حد المبالغة، كما يظهر في أحد المواقف التي جمعت بينه وبين جرير وابن الرقاع عند الخليفة سليمان بن عبد الملك، إذ طلب منهم أن ينشدوا أبياتًا من الفخر، فاستهل الفرزدق قائلاً :

ولو رفع السحاب إليه قوما … علونا في السماء إلى السحاب

فأعجب الخليفة ببيت الفرزدق حتى قال : “لا تنطقوا، فوالله ما ترك لكم مقالاً”.

لم يكن الفخر حكرًا على الفرزدق، بل كان لجرير نصيب كبير منه، حيث عبّر عن اعتزازه ببني تميم وفخره بمكانتهم، ومن ذلك قوله :

إذا غضبت عليك بنو تميم … حسبت الناس كلهم غضابا

وقد وظّف جرير الفخر أيضًا في معاركه الأدبية مع الفرزدق، محاولاً التفوّق عليه شعريًا وإبراز مكانته.

الهجاء بين الفرزدق وجرير: معركة بلا هوادة

لم تقتصر المنافسة بين الشاعرين على الفخر، بل تحولت إلى صراع شعري مرير تخللته أقسى أساليب الهجاء. وقد استخدم كل منهما هجاءً لاذعًا يطعن في الآخر وأهله ونسبه وكرمه، حتى عُرفت هذه المعركة الأدبية باسم “النقائض”.

كان الفرزدق يعتمد في هجائه على المقارنة بين نسبه ونسب جرير، ويذكر أمجاده أمام تواضع نسب خصمه، كما قال مخاطبًا جريرًا :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم … إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وفي هجائه اللاذع لجرير، قال الفرزدق متهكمًا :

يا ابن المراغة كيف تطلب دارما … وأبوك بين حمارة وحمار

وهنا يستخف بنسب جرير ويقلل من شأنه. كما قال في هجائه لقبيلة جرير:

كم خالة لك يا جرير وعمة … فدعاء قد حلبت عليّ عشاري

ويقصد بذلك الحطّ من شأن أقاربه، مشيرًا إلى أنهم كانوا يعملون في رعاية الماشية.

لم يكن جرير أقل حدة في هجائه، بل كان يُعد من أبرع شعراء الهجاء، حتى إن البعض اعتبر أن أهجى بيت في الشعر العربي كان قوله لفرزدق :

فغض الطرف إنك من نمير … فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

وقد أثّرت هذه الأبيات بشدة على بني نمير حتى إنهم طلبوا من الفرزدق أن يرد على جرير، لكنه لم يستطع ذلك بقوة تعادل هجاء جرير.

لم تكن المناوشات بين الفرزدق وجرير مجرد أبيات شعرية عابرة، بل شكّلت إرثًا أدبيًا فريدًا جسّد فن الهجاء والفخر بأجمل صوره. واستمرت هذه المعركة الأدبية لعقود، حتى أصبحت إحدى أبرز المحطات في تاريخ الشعر العربي، حيث لم يكن الهدف فقط النيل من الخصم، بل أيضًا إبراز براعة كل شاعر في استخدام اللغة والخيال والأساليب البلاغية.

وهكذا، يبقى الصراع بين الفرزدق وجرير شاهدًا على قوة الشعر العربي، وعظمة الشعراء الذين استخدموا الكلمة كسلاح في ميادين الأدب والتاريخ.

close