زهير العمور يالحسين أزناك: الفلسفة والأخلاق

زهير العمور يالحسين أزناك: الفلسفة والأخلاق

 
زهير العمور يالحسين أزناك

تعد الأخلاق من المواضيع المحورية في الفلسفة، لما تثيره من إشكالات تتعلق بطبيعة الفعل الإنساني ومبادئه. فالأخلاق ليست مجرد مجموعة من القواعد التي تحكم السلوك البشري، بل هي مسألة فلسفية غاية في التعقيد، حيث تلامس جوانب العدالة، المسؤولية، الواجب, والسعادة. منذ فجر الفلسفة، ظل التفكير الأخلاقي متصلا ارتباطا وثيقا بالعقل وضميره، متسائلا عن مصدر الشرعية الأخلاقية: هل ينبع الفعل الأخلاقي من العقل بوصفه قدرة ذاتية على إدراك الخير والشر، أم أنها مستمدة من الوحي الديني كمصدر أعلى للمعايير؟
ويعكس هذا النقاش التجاذب الجدلي القائم بين الاتجاهات العقلانية، كما في فلسفة كانط التي ترى في العقل مصدرا كافيا لتأسيس الواجب الأخلاقي، والاتجاهات الدينية التي ترى أن الوحي هو المعيار الأسمى للأخلاق، كما هو الحال في الفكر الغزالي و توما الأكويني .
وإذا كان سؤال تأسيس الأخلاق يفتح المجال أمام جدلية العقل والدين، فإن سؤال طبيعة الخير يطرح إشكالية أعمق: هل الخير قيمة مطلقة تتجاوز حدود الزمن والثقافة، أم أنه يتحدد وفقا للسياقات الاجتماعية والتاريخية، فيكون بذلك نسبيا؟ لقد ذهب أفلاطون إلى القول بأن الخير كيان ميتافيزيقي متعال عن العالم المادي، بينما رأى نيتشه أن القيم الأخلاقية ليست سوى تعبير عن بنى القوى الاجتماعية، ما يجعلها مشروطة بالتاريخ ومتغيرة وفقا للتحولات الحضارية. هذا التباين النظري يعكس صعوبة تحديد معيار كوني للخير، ويفرض علينا التساؤل عن مدى إمكانية تأسيس أخلاق موضوعية في ظل التنوع الثقافي والمعياري.
في السياق المعاصر ومع تطور العلوم الحديثة وانتشار التكنولوجيا، باتت الأخلاق تواجه تحديات جديدة غير مسبوقة، حيث أدى تطور التكنولوجيا إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والقيم. فالذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، ووسائل التواصل الاجتماعي، كلها عوامل أثرت بشكل جوهري على مفاهيم مثل الحرية، المسؤولية، والخصوصية. فهل يمكن الحديث عن أخلاق رقمية تتماشى مع المتغيرات التكنولوجية، أم أن التحولات الرقمية تفضي إلى أزمة أخلاقية تهدد مرتكزات السلوك الإنساني؟ إن هذه الإشكالات لا تقتصر على الفلسفة النظرية، بل تمتد إلى الفلسفة التطبيقية التي تسعى إلى تبيئة الأخلاق ضمن سياقات جديدة، ما يفرض علينا إعادة النظر في دور الأخلاق في العصر الرقمي، ومدى قدرتها على الصمود أمام الممارسات التقنية الحديثة.
وفي ظل هذه الإشكاليات، تزداد أهمية التفكير في كيفية تكامل الأخلاق مع التغيرات التكنولوجية والمعرفية في العصر الرقمي. كيف يمكن للأخلاق أن تصمد أمام الممارسات التقنية الحديثة؟ وهل يمكننا الحفاظ على المعايير الأخلاقية في بيئة رقمية متغيرة باستمرار؟
سنحاول في هذا المقال أن نعالج هذه الإشكالات الجوهرية ونستعرض تأثير التطورات التكنولوجية على الأخلاق، من خلال ثلاث قضايا أساسية: أولا: إشكالية تأسيس الأخلاق بين العقل والدين؛ ثانيا: إشكالية النسبية والمطلق في تصور الخير, وأخيرا: تأثيرات العصر الرقمي على منظومة القيم الإنسانية.
1_اشكالية تأسيس الأخلاق بين العقل والدين :
هذا المحور يشكل إشكالية فلسفية عميقة تتعدد أبعادها وتعقيداتها عبر التاريخ الفلسفي. في هذا السياق يمكننا عرض هذا المحور من خلال تحليل النظريات المختلفة التي تناولت الأخلاق من منظور عقلاني وديني، بدءا من سبينوزا وكانط وشوبنهاور ونيتشه، وصولا إلى دوركايم و الغزالي و توما الأكويني.
إن سؤال التأسيس في الأخلاق من الإشكالات الفلسفية الجوهرية التي أثارت جدلا واسعا في تاريخ الفكر الفلسفي. هل الأخلاق منظومة عقلية تستند إلى التفكير ؟ أم أنها تُبنى على الدين باعتباره المصدر الرئيسي للقيم الأخلاقية؟ هذه الإشكالية لم تكن مجرد تساؤل نظري بل ترتبط بشكل وثيق بفهم طبيعة الإنسان ودوافعه الأخلاقية. في هذا المقال العظيم، ستسلط الضوء على موقفين فلسفيين متباينين: موقف الفيلسوف باروخ سبينوزا، الذي يرى أن الأخلاق تؤسس على العقل، وموقف عالم الاجتماع إميل دوركايم، الذي يؤكد أن الأخلاق هي ظاهرة اجتماعية تفرض على الأفراد من خلال الضمير الجمعي.
ينطلق اسبنوزا من أطروحة مفادها، أن الأخلاق لا تقوم على الدين ، بل العقل باعتباره المشرع الفعلي لهذه الأخلاق، لهذا يعتبر اسبنوزا مفهوم الخير والشر ليسا مفاهيم مطلقة تُحدد من قبل سلطة دينية، بل هما نسبيان ويتحددان وفقا لما يزيد أو يضعف من قدرة الإنسان على تحقيق ذاته فالخير في نظره، هو كل ما يعزز قوة الإنسان ويمنحه القدرة على الفعل والتطور، بينما الشر هو كل ما يحد من هذه القوة.
على سبيل المثال، إذا كان الصدق يساعد الإنسان على بناء علاقات قوية ومتينة مع الآخرين، فهو خير، أما إذا كان الكذب يُضعف ثقة الإنسان بنفسه ويؤدي إلى عزله عن المجتمع، فهو شر. ومن هنا، فإن الأخلاق عند سبينوزا ليست قائمة على الامتثال لأوامر خارجية، بل على الفهم العقلاني للطبيعة الإنسانية وللظروف التي تساعد الإنسان على تحقيق حريته وسعادته.
إضافة إلى ذلك، يرى سبينوزا أن الدين قد يكون عائقًا أمام تحقيق الأخلاق الحقيقية، خاصة إذا كان قائما على الخوف والعقوبات بدلا من الفهم. فالإنسان الذي يتصرف بطريقة أخلاقية خوفا من العقاب الإلهي لا يكون فاضلا بالمعنى الحقيقي لأنه لا يتصرف بدافع العقل، بل بدافع الخضوع. ولهذا، فإن الفضيلة عند سبينوزا تعني العيش وفقا للعقل، والتحرر من الانفعالات السلبية مثل الخوف والكراهية على النقيض من ذلك يرى اميل دوركايم أن الأخلاق ليست نابعة من العقل الفردي ولا من الدين بشكل مباشر، بل هي ظاهرة اجتماعية تتشكل داخل المجتمع، حيث يوضح دوركايم أن الأخلاق تبنى من خلال الضمير الجمعي، وهو مجموعة القيم والمعايير التي يفرضها المجتمع على أفراده لتنظيم سلوكهم.
يؤكد دور كايم أن الأخلاق ليست فطرية يولد بها الإنسان، بل هي مكتسبة، يتعلمها الفرد من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية. فمثلاً، فكرة احترام كبار السن تعتبر قيمة أخلاقية لا تأتي بالفطرة، بل تغرس في الإنسان من خلال تعاليم المجتمع وعاداته. وهكذا، تصبح الأخلاق مجموعة من القواعد التي تفرض على الأفراد بهدف تحقيق التماسك الاجتماعي وضمان استقرار المجتمع.
رغم أن دوركايم لا يرى أن الدين هو المصدر الوحيد للأخلاق، إلا أنه يعترف بأن الدين لعب دورا أساسيا في نشأة القيم الأخلاقية وتشكيل الضمير الجمعي. فالتعاليم الدينية تقدم مبررات قوية للالتزام الأخلاقي، وتعزز الشعور بالواجب تجاه المجتمع. لكن مع تطور المجتمعات، يمكن أن تتحول الأخلاق إلى منظومة علمانية تستند إلى القيم المجتمعية بدلا من القيم الدينية.
إمانويل كانط:
على عكس سبينوزا الذي يرى أن الأخلاق تبنى على العقل من منطلق تحقيق القوة الذاتية، ودوركايم الذي يعتبر الأخلاق ظاهرة اجتماعية تنشأ من الضمير الجمعي، يقدم إيمانويل كانط رؤية مختلفة تقوم على العقل المحض والإلزام الأخلاقي المطلق.
يرى كانط أن الأخلاق لا تعتمد على النتائج أو الغايات كما هو الحال في منظور سبينوزا، ولا تنبع من المجتمع كما يرى دوركايم، بل تستند إلى الواجب العقلي المطلق. وهذا ما يسمى بـالأمر المطلق وهو مبدأ أخلاقي يحتم على الإنسان التصرف وفق قاعدة يمكن تعميمها على الجميع، بغض النظر عن رغباته الشخصية أو نتائج الفعل.
فكانط يؤكد بأن الإرادة الخيرة هي الشيء الوحيد الذي يمكن اعتباره خيرا بشكل مطلق، وليس الفضيلة ولا السعادة ولا أي نتائج أخرى. فحسبه علينا فعل الخير لا من أجل غاية, بل لذاته لأن الخير هو خير في ذاته, فالفعل الأخلاقي عنده هو الذي ينجز بدافع الواجب فقط، وليس لأي منفعة أو خوف من عقاب. على سبيل المثال الصدق عند سبينوزا هو خير لأنه يعزز قوة الإنسان وعلاقاته، أما عند كانط فهو واجب أخلاقي يجب الالتزام به حتى لو أدى إلى نتائج سلبية.
نتشه:
نيتشه من جهة أخرى يرفض  التصورات التقليدية للأخلاق ويعتبرها زائفة ونتيجة للضعف البشري. في رأيه الأخلاق التي نشأت من الدين ، خصوصا المسيحية، قد قيدت الإنسان وحصرته في مفاهيم مثل الصدق والتواضع، مما أدى إلى إضعاف القوى الطبيعية للإنسان. نيتشه يروج لفكرة “الأخلاق السيادية” حيث يحدد الأفراد الأقوياء والمبدعون مبادئهم الأخلاقية الخاصة التي تتماشى مع إرادتهم للحياة. مثل الانسان الأعلى او ما سماه بالسوبرمان وهو الوحيد القادر على تجاوز الأخلاق التي فرضها المجتمع والدين ,فالسوبرمان يرفض القيم التي تعزز الخنوع والضعف, بالنسبة له لا يوجد مقياس ثابت للصواب والخطأ، بل يجب  تجاوز الأيديولوجيات الجماعية.
نتشه يرفض الاخلاق الكانطية ويرفض الواجب المطلق كقاعدة أخلاقية ,ويعتبر هذه الفكرة تمثل جمودا فكريا حيت لا يأخذ في الحسبان تنوع الاحتياجات البشرية والتجارب البشرية والفردية , وهذا واضح في كتابه “العلم المرح” الذي انتقد فيه “الأمر المطلق” عند كانط. فمن غير الممكن فرض قاعدة أخلاقية واحدة على الجميع ,لأن البشر مختلفون ولديهم تطلعات ودوافع متباينة . نتشه لا يرى أن الواجب هو الأساس الأخلاقي ,بل الإرادة الحرة المتفردة.
باختصار، كانط يرى أن الأخلاق هي واجب عقلي عالمي مبني على مبدأ ثابت، بينما نيتشه يعتبر الأخلاق التقليدية مجرد قيد على الإنسان ويشجع على التمرد عليها لصالح الأخلاق التي يصوغها الفرد نفسه.
الغزالي:
الفقيه والمتصوف الإسلامي، قدم رؤية أخلاقية مغايرة تجمع بين الشريعة والتصوف. بالنسبة له الأخلاق لا تبنى فقط على العقل أو الإرادة الفردية، بل هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالالتزام الديني وبالطريق الروحي. يعتقد الغزالي أن الأخلاق تستند إلى مبادئ شرعية تضعها الشريعة الإسلامية، وأن الإنسان في حالة من الخلل إذا تجاوز الحدود التي وضعها الله تعالى. فبالنسبة له لا يمكن للأخلاق أن تكون مجرد تصورات فردية أو ذاتية كما عند نيتشه، بل هي في صميم الإرادة الإلهية التي يتوجب على الإنسان اتباعها. لكن في نفس الوقت، كان يعتنق فكرة أن الإنسان يمكنه الوصول إلى صفاء النفس من خلال التصوف، أي أن الأخلاق ليست مجرد مجموعة من الأوامر والواجبات، بل هي أيضا عملية داخلية لتحسين الذات.
توما الأكويني:
أما توما الأكويني، الذي يعتبر من أبرزعظماء الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى، فقد كان لديه رؤية مختلفة تركز على العقلانية والعناية بالقيم المسيحية في تشكيل الأخلاق. وفقا له الأخلاق ليست مجرد أمر ديني خالص، بل هي أيضا نتيجة للقدرة العقلية البشرية التي تمنح الإنسان القدرة على تمييز الصواب من الخطأ. الأكويني كان يرى أن الإنسان لا يمكنه تحديد أخلاقه بشكل فردي كما كان يروج نيتشه، بل يجب أن يتوافق مع “القانون الطبيعي” الذي هو جزء من النظام الإلهي. هذا القانون الطبيعي يشمل مبادئ مثل العدالة، والصدق، والرحمة، والتي هي غير قابلة للتغيير بناء على إرادة الأفراد. بالنسبة للأكويني الأخلاق هي وسيلة لتحقيق الخلاص، وهي تعكس النظام الإلهي في الحياة الإنسانية.
حين ندمج مواقف هؤلاء المفكرين الأربعة في سياق واحد، نجد أن هناك تباينا كبيرا بين الموقف الكانطي والنيتشي، مع تأكيد كانط على العقل والأخلاق العالمية المجردة ورفض نيتشه لهذه الأخلاقيات الجماعية وتفضيله للأخلاق الفردية المرتبطة بالقوة والإرادة الحرة. في المقابل يقدم الغزالي والأكويني نمطا من الأخلاق يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين، حيث يعتبر الغزالي أن الأخلاق هي استجابة للإرادة الإلهية في ضوء الشريعة، بينما يرى الأكويني أن الأخلاق تتوافق مع “القانون الطبيعي” الذي هو جزء من النظام الإلهي.
من هنا يمكن القول إن نيتشه وكأنط يختلفان جذريا في طرحهم حول الأخلاق، حيث يرفض الأول الأخلاق التي تقيد الفرد وتستند إلى قيم دينية جامدة، بينما يروج الثاني لأخلاق عقلانية وفردية. في حين أن الغزالي والأكويني، رغم اختلافاتهم يؤكدون أهمية التوجيه الديني والأخلاقي في تشكيل سلوك الإنسان.
2_جدلية الخير والشر:هل الخير مطلق ام نسبي؟
في البداية لا بد من أن نقف عند مفهوم الشر باعتباره حالة معاكسة للخير، فهو ليس شيء هو حالة غياب شيء ,أي حالة غياب شيء موجود .مثلا غياب الحياة ينتج عنها حالة اسمها مرض, غياب النور ينتج عنها حالة اسمها ظلام ,فالشر اذن ليس شيء هو حالة تشويه الشيء, يشير إلى الأفعال أو السلوكيات التي تؤدي إلى الأذى، الألم أو التدمير، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. يمكن للشر أن يظهر في صورة قرارات غير أخلاقية أو أعمال عنف، أو حتى إهمال حقوق الآخرين. أبيقور يقول “الشر إذا وجد لا يمكن أن يوجد إله كلي الصلاح وكلي القدرة والمعرفة” أي إذا وجد  الشر لا وجود للإله وإذا وجد لإله لا وجود للشر.
أما بالنسبة لجدلية الخير والشر، فهذه القضية لم تتوقف عن إثارة النقاش بين الفلاسفة على مر العصور, وسنحاول أن نناقش بشكل مختصر هذه القضية من خلال مذهبيين اخلاقيين ,مذهب المنفعة الذي يعرف أيضا بنظرية النفعية وتعود أصوله الى الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام ,وقد طوره لاحقا جون ستيوارت ميل .ومذهب الواجب الذي يعرف أيضا بالأخلاق الكانطية نسبة الى كانط كما رأينا في المحور الأول.
في نظرية المنفعة (أو الفعل النفعي)،ترى أن الأفعال البشرية تكون خيرية أو شريرة تبعا للأثار الناجمة عنها, فإذا كانت نتيجة فعل من الأفعال تنطوي على الأذى ,فهو شر ,فالسرقة مثلا ليست شرا في ذاتها ولكن لأنها تسبب الضرر للشخص الذي تعرض للسرقة .يعني أنه يتم تحديد الخير بناء على ما يحقق أكبر قدر من السعادة أو المنفعة لأكبر عدد من الناس. وفقا لهذه النظرية، لا يمكن تحديد الخير كقيمة مطلقة، بل يتعين تقييم الأفعال بناء على نتائجها. فالخير هنا نسبي يعتمد على الظروف والسياق الذي يحقق أكبر منفعة.
أما في نظرية الواجب (أو الأخلاق الكانطية)، فترى العكس وهو أن السرقة شر لأنها فعل مرذول في ذاته وليس في نتائجه, فالو أن الشخص سرق ريالا واحدا من أحد الأثرياء فلن يتضرر ذلك الثري ,ولكن هذا لن يجعل السرقة عمل مقبول ,بل ان السرقة شر ليس لما تؤدي اليه ,بل لأنها خطأ في ذاتها.
 فالخيرهنا ينظر إليه كقيمة مطلقة تتجاوز النتائج، حيث يعتمد على المبادئ الأخلاقية الثابتة والواجبات التي يجب على الأفراد الالتزام بها بغض النظر عن العواقب. في هذا السياق، يعتبر الخير شيئا ثابتا لا يتغير وفقا للظروف، بل يحدد من خلال الالتزام بالمبادئ الأخلاقية التي تعتبر صحيحة دائما
من هنا نجد أن نظرية المنفعة تدعم فكرة أن الخير نسبي ويعتمد على السياق، بينما ترى نظرية الواجب أن الخير مطلق وغير قابل للتغيير بناء على الظروف.
3_دور الأخلاق في العصر الرقمي: كيف تؤثر التكنولوجيا على مبادئنا الأخلاقية؟
إن الحديث عن دور الأخلاق في العصر الرقمي لم يعد مجرد نقاش نظري حول الضوابط والمعايير، بل أصبح ضرورة ملحّة تفرضها التحولات العميقة التي أحدثتها التكنولوجيا في بنية المجتمع والإدراك الإنساني. فمع الرقمنة، لم تتغير أساليب التواصل والعمل فحسب، بل أُعيد تشكيل مفاهيم أساسية كالهوية، والخصوصية، والحقيقة. وفي هذا السياق، لا يقتصر التحدي الأخلاقي على توجيه استخدام التقنية، بل يمتد إلى مساءلة تأثيرها على القيم الإنسانية وإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والعالم الرقمي، مما يفرض مراجعة فلسفية معمقة للأسس التي تُبنى عليها الأخلاق في هذا العصر الجديد.
اذا أمعنا النظر في دور الأخلاق في العصر الرقمي،ماذا تأثيرها على على مبادئنا الاخلاقية. مستندين قيد هذه الدارسة إلى التحليل النفسي للسلوكيات الفردية والقرارات الأخلاقية، يتضح أن الاستخدام المكثف للتكنولوجيا الرقمية يؤدي إلى تحولات جوهرية في البنية الأخلاقية للفرد. فالانخراط المستمر في البيئة الافتراضية يسهم في إضعاف الوعي الأخلاقي، إذ تتلاشى حدود المسؤولية الفردية نتيجة الطابع غير المباشر للتفاعل الرقمي. علاوة على ذلك، يؤدي التعرض المتكرر للمحتويات العنيفة  إلى تقلص الإحساس الأخلاقي، حيث يفقد الفرد تدريجيًا قدرته على التفاعل القيمي مع الواقع، وهو ما قد ينعكس في سلوكيات عدوانية.
إلى جانب ذلك، يُعتبر الإدمان الرقمي أحد العوامل المركزية في تراجع التفكير النقدي بشأن القضايا الأخلاقية، حيث يؤدي الاعتماد المفرط على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تشثت الانتباه وضعف القدرة على التأمل الأخلاقي العميق. وبالتالي، تصبح القرارات الأخلاقية أكثر خضوعًا لآليات التفاعل السريع والاستجابات العاطفية اللحظية، مما يقلل من حضور البعد العقلاني في الحكم القيمي.
أما من منظور السوسيولوجيا، فإن تأثير التكنولوجيا على الأخلاق لا يقتصر على المستوى الفردي، بل يمتد إلى البنية الاجتماعية ككل، مما يساهم في تفكيك المنظومات التقليدية للقيم. فقد كانت المؤسسات الاجتماعية الكبرى مثل الأسرة، المدرسة، والمؤسسة الدينية تشكل المرجعيات الأخلاقية الأساسية، غير أن ظهور التكنولوجيا أدى إلى تعدد مصادر القيم، مما أضعف سلطة هذه المؤسسات في ضبط السلوك الأخلاقي.
إن تفكك المرجعيات التقليدية أدى بدوره إلى إعادة تشكيل السلطة الأخلاقية، حيث لم يعد الفرد يستمد قيمه من مؤسسات اجتماعية ذات طابع هرمي، بل بات يُعيد إنتاجها وفقًا لمقتضيات الفضاء الرقمي. ومن هذا المنطلق، أصبح التفاعل الرقمي يشكل أحد المحددات الجديدة للقيم، حيث يُنظر إلى الأخلاق من خلال منطق القبول الاجتماعي داخل شبكات التواصل، وهو ما أدى إلى إعادة تعريف الصواب والخطأ وفق معايير تتغير بتغير السياقات الرقمية . داخل مجتمعنا المغربي، مثلا، نلاحظ أن الشباب يتأثرون بشكل كبير بالشخصيات التي يراها على منصات السوشل ميديا، سواء كانت لشخصيات مشهورة عالميا مثل إيلون ماسك أو شخصيات مغربية مثل “سيمو لايف” أو غيرهم من الشخصيات الثقافية أو السياسية أو حتى التافهة. هؤلاء الأشخاص يصبحون بالنسبة لهم نماذج يحتذى بها، بل ويتخيلون أن بإمكانهم الوصول إلى نفس مستويات النجاح والمكانة الاجتماعية من خلال تواجدهم على هذه الشبكات. هذه الظاهرة قد تؤدي إلى تطلعات غير واقعية، حيث يبدأ الشباب في تخيل أنفسهم أشخاصا مختلفين عن شخصياتهم الحقيقية. لكن هذه الصورة المثالية التي يصنعها الشباب في أذهانهم عن أنفسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي غالبا ما تتصادم مع الواقع. عندما يواجه هؤلاء الشباب التحديات الحقيقية في الحياة، سواء كانت مالية أو اجتماعية أو مهنية، فإنهم يجدون أنفسهم في مأزق كبير. الواقع لا يتماشى مع الصورة التي خلقوها لأنفسهم على الإنترنت، مما يؤدي إلى شعور بالضغط النفسي والخذلان والإحباط وبتالي يتشكل لديهم نوع من الكره للذات وللأخر بسبب الفجوة بين الخيال والواقع.
والطامة الكبرى هي أن شخصيات التفاهة أصبحت هي من تسيطر على منصات التواصل الاجتماعي وعلى أدسنس والمشاهدات، مما أدى إلى انتشار ثقافة المحتويات السطحية والمستهلكة التي تستهدف جذب الأموال بسرعة على حساب القيمة والمعرفة. هذا التوجه ساهم في اقتداء الشباب بهذه الشخصيات بدلا من تقديم محتوى هادف وملهم. النتيجة أن الجيل الجديد أصبح يتبنى معايير خاطئة حول النجاح، مستندين إلى الشهرة السريعة بدلا من التفوق الحقيقي والمستدام.
في كتاب “نظام التفاهة” يقول آلان دونو أن هذه المنصات ساهمت في تحويل الأشخاص التافهين إلى رموز يحتذى بها، مما جعلهم يظهرون بمظهر الناجحين. هذا التحول أدى إلى تهميش القيم الحقيقية، حيث أصبح المال هو المعيار الأساسي للنجاح، وتراجعت معايير الجودة والجدية لصالح المحتوى السطحي والسهل.
كما يعبر دونو عن أن التفاهة تشجع الناس على الاستسلام للتفكير السطحي بدلامن التفكير العميق، مما يحولهم إلى أغبياء يتقبلون الأمور كما هي دون نقد أو تمحيص. هذا التوجه يساهم في انتشار الرداءة في مختلف المجالات، من السياسة إلى الفن، ويؤثر سلبا على تطور المجتمعات.

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close