غياب أنطوان كرباج «أيقونة» المسرح اللبناني

يكفي أن ترى كيف امتلأت وسائل التواصل بعبارات الحزن والأسى على رحيل الفنان اللبناني أنطوان كرباج، لتعرف مكانته في قلوب الناس، ومن ثم إن تلحظ كيف أن سياسيين من مختلف التيارات والأحزاب سارعوا إلى نعيه، لتدرك أنه كان أيقونة وطنية يتَّحدُ حولها من لم يجمعهم شيء، ولم يآلف بين قلوبهم قضية.

لم يكن أنطوان كرباج ممثلاً عادياً، بل كان عالماً يضجُّ بالشخصيات التي جسَّدها على مدار أكثر من 50 سنة بين المسرح والتلفزيون والسينما. بيد أنه كان في كل مرَّة يُطل فيها، يجعل الدور الذي يلعبه، باقياً، ومؤثّراً، وكأنه يحفرُ في ضمير الناس، ويتغلغل في وجدانهم.

لقطة من إحدى مسرحياته (فيسبوك الفنان)

يكفي أن تراه بعد أن يُنهي دوره في إحدى المسرحيات، ويبدِّل ملابسه ويهمُّ بمغادرة المسرح، وقد احمرَّ وجهه والعرق يتصبب منه، وعيناه زائغتان، لتعي جيداً أنه لا يمثِّل، وإنما ينتقل إلى حياة أخرى، بمشاعرها، وآلامها وأحلامها، وجنونها.

معه عاشت أجيال لبنانية طفولتها، ونضجها، ورأت نماذج لشخصيات، بقيت جزءاً من ضميرها. فمن ينسى جان فالجان في «البؤساء» المأخوذ عن الرواية الشهيرة لفيكتور هوغو؟ المسلسل الذي كان حضور أنطوان كرباج فيه عظيماً، قوياً لا بل كان جباراً. وهل يمكنه أن يمحو من ذاكرته ملامح القائد الروماني بعبستِه، وتجهمه في مسرحية «بترا» إلى جانب فيروز، الملكة التي خَطف لها ابنتها وبقي شامخاً لا يرتجف؟ هل هناك من يمكنه ألا ينتبه، إلى دور كرباج المهاب في مسلسل «بربر آغا» الذي كانت تنتظره الجماهير، لتسمع ذاك الصوت القوي الجهوري الذي لا يشبه أي نبرة أخرى؟ لا يمكن لمن حضر مسلسل «لمن تغني الطيور» أن يمحو من ذهنه صورة «المفتش» بنظرته الثاقبة، وحركاته المحسوبة.

مع ذلك، لم يكن أنطوان كرباج ممثلاً مدلَّلاً رغم مهارته الفذَّة، ولم يحاول أن يمتهن أي حرفة أخرى، تشغله عن تركيزه على التمثيل. الاحتفاء الخافت به كان يُشبه تواضعه الجمّ، وخفره الذي يخفي عبقرية، ما أن تدخل في ثوب شخصية حتى تتفجَّر اندماجاً في حناياها. هو لا شاغل له سوى هذا الإخلاص المذهل لأدواره التي يتنقِّل بينها، وكأنه يُعطي نفسه كلها.

لم يكن أنطوان كرباج ممثلاً عادياً (فيسبوك الفنان)

خلال عمره الفني الطويل، لم يتعب أنطوان كرباج من التمثيل، ميزته أن حضوره في أي عمل يؤدِّيه كان طاغياً، وأثره باقياً، واختياراته، تعكس حسّه العالي، وذوقه الثقافي الرفيع.

بدأ التمثيل في الجامعة، ومن ثَمَّ التحق، في مطلع الستينات من القرن الماضي، بمعهد المسرح الحديث التابع للجنة مهرجانات بعلبك الدولية، بإدارة المسرحي منير أبو دبس. وأصبح من الأعضاء المؤسسين للفرقة، التي لعبت دوراً ريادياً في نهضة الحركة المسرحية في لبنان.

وإذا كانت السينما قد عرفت أنطوان كرباج في أكثر من فيلم بينها «امرأة في بيت عملاق» و«الصفقة»، وكذلك أبدع في مسلسلاته التلفزيونية التي بقيت علامة فارقة في عمر الشاشة الفضية اللبنانية، فهو قبل كل شيء، ابن المسرح وعاشقه. على الخشبة كان أنطوان كرباج ملكاً. أدى أدواراً أساسية في مسرحيات كلاسيكية من الأدب العالمي، وكانت بحق تليق به. فقد قدم «ماكبث»، و«هاملت» لشكسبير، و«الملك يموت» لأوجين يونيسكو، ودور أورست في مسرحية «الذباب» لجان بول سارتر، وأوديب في مسرحية «أوديب ملكاً» لسوفوكليس.

ولعلَّ أكثر الأدوار تأثيراً عند المتفرجين هي تلك التي لعبها في مسرحيات الأخوين رحباني، اللذين أدركا موهبة كرباج، وأعطياه أدوراً بارزة في مسرحياتهم. فقد لعب دور فاتك المتسلط في مسرحية «جبال الصوان»، والملك غيبون في «ناطورة المفاتيح»، والمهرب في «يعيش يعيش»، والحرامي في «المحطة»، ومن ثَمَ مثَّل مع منصور الرحباني في مسرحيته «حكم الرعيان»، ودور البازرباشي في «صيف 840»، كما شاهدناه مع فرقة كركلا في مسرحية «بليلة قمر».

لعب كرباج دوراً رئيسياً في حركة النهضة المسرحية الحديثة (صفحته على فيسبوك)

من الصَّعب تعداد عشرات الأدوار المهمة التي لعبها أنطوان كرباج في حياته الفنية الحافلة، لكن من المؤكد أنه لعب دوراً رئيسياً في حركة النهضة المسرحية الحديثة، وفي إثراء المسلسلات التلفزيونية الكبيرة، وأنه كان أحد أهم الممثلين اللبنانيين في النصف الثاني من القرن العشرين.

وُلد أنطوان كرباج في بلدة زَبُّوغا في قضاء المتن عام 1935، وكان يُفترض أن يصبح أستاذاً في التاريخ أو الجغرافيا، لو بقي في مسار دراسته الجامعية، بيد أن التمثيل كان جزءاً من طفولته ومن ميوله العفوية، وهو يحاول صغيراً أن يُمثِّل اسكتشات أمام عائلته والأقرباء، ليكتشف أن التمثيل هو الطريق الوحيد الذي يستهويه، فيبدأ بمحاولاته المسرحية، ويلتحق بالتلفزيون في مطلع السبعينات، ويُصبح نجماً يتمنَّاه كل مخرج في عمل له يريده جاداً وحقيقياً، وقد التحق بالجامعة اللبنانية أستاذاً للتمثيل وخرَّج أجيالاً.

وزير الثقافة اللبناني الدكتور غطاس الخوري يقلد أنطوان كرباج «وسام الأرز الوطني برتبة ضابط» (الشرق الأوسط)

وقد كرمته الدولة اللبنانية ولو متأخرة في ديسمبر (كانون الأول) عام 2018، عندما نظَّمت وزارة الثقافة «مهرجان لبنان الوطني للمسرح»، وحملت الدورة الأولى اسم أنطوان كرباج، لكن تعذَّر حضوره بسبب المرض، وقلَّده وزير الثقافة باسم رئيس الجمهورية ميشال عون آنذاك وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط، تقديراً لعطاءاته الفنية والثقافية على مدى 40 عاماً.

وبسبب انفجار المرفأ في بيروت عام 2020، علِم اللبنانيون، أن نجمَهم يقبع في مستشفى الروم الذي أصيب بأضرار بليغة بسبب قربه الشديد من مكان الانفجار. انتشر يومها خبر إصابة أنطوان كرباج بألزهايمر، اضطرت بعدها عائلته لأن تُودعه مصحاً يعنى بحالته، ويوفر له الرعاية.

من حينها لم يغادر كرباج ذاك المكان. ومن المؤلم أن شريكته وزوجته الشاعرة والفنانة التشكيلية لور غريب التي وافاها الأجل حزينة عليه العام الماضي، لم يدرك غيابها. وها هو يلحق بها إلى دار الآخرة، وقد تركا إرثاً جميلاً لأولادهم الثلاثة: وليد، ورولا، ومازن.

وقد نعى كرباج فنانون كُثر وإعلاميون، تحدثوا عن التأثير الذي تركه في مسيرتهم، وعن الدور الجليل الذي لعبه. وكانت لافتة كلمة وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة، الذي كتب عن أنطوان كرباج أنه «كان بذاته صرحاً مكتملاً، كتابة وأداءً وإخراجاً، من صروح المسرح اللبناني في عصره الذَّهبي، تخفي عبستُه المعروفة على الشاشات طيبة داخلية صادقة، وحرصاً مهنياً راقياً، واهتماماً دؤوباً في موقع ذلك الفن الجميل وبمصالح أبنائه».

close