صوت مرتفع وعقل مفقود: تحليل محمود سعيد برغش للجدل السياسي

الصوت العالي يهيمن على حياتنا اليومية في هذه الأيام، حيث يغلب الإدعاءات السطحية والظهور الزائف على كل شيء، فينخدع الكثيرون ويربطون بين الضبط والمعنى الفعلي. يعتقد البعض أن الارتفاع في النبرة يمنح السلطة، وأن النداء العنيف يغطي على الضعف الداخلي، غير أن هذا الغطاء يتفكك تحت الضغوط الحقيقية. في الواقع، يغطي الصوت العالي عادةً عدمية تكشف نفسها تدريجياً، مقابل تماسك الإيمان بالهدوء والسلوك الثابت.

كيف يُقيّم الإسلام الصوت العالي؟

يُبرز الإسلام مبادئ راسخة للتوفيق بين الشكل الخارجي والجوهر الداخلي، محترزاً من الوقوع في ورطة النداء المرتفع الذي يشير إلى نقص معرفة. يشجع الدين على الضبط والسكينة، ويجعل المضمون المعيار الرئيسي بدلاً من العبارات المهيبة. من خلال القرآن، تُسلط الآيات الضوء على خصال المؤمنين الحقيقيين الذين يسيرون بخطى واثقة دون تكبر، ويجيبون الجاهلين بسلام هادئ؛ إذ يُصور الصوت العالي هناك كتصرف جوفاء يبتعد عن الفهم الصحيح. كذلك، يمنع الخالق العزيز الغرور والتفاخر بلا أساس، مطالبًا بالاعتدال في السير وتوجيه الصوت، مقارنًا إياه بصوت الحيوانات التي لا تضيف معنى. هذه النصوص تربط الهدوء بالقوة الدائمة، وتذكر أن التقدير يأتي من السلوكيات لا من الإزعاج.

من السنة النبوية تأتي تأكيدات صارمة لترجيح السكوت على الإفصاح غير المفيد، كما في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يدعو إلى النطق بالنافع أو الإمساك. هذا يؤكد أن الباري لا يهتم بالمظهر الخارجي أو الزعم الكبير، بل بالنوايا والجهود النزيهة. وفي رواية أخرى، يُحذر من العبارة السهلة التي تسحب صاحبها نحو الخسارة، موضحًا كيف يقود الصوت العالي إلى الضلال إذا لم يسيطر عليه المنطق. هكذا تعاليم تشكل أساساً يُعطي الأولوية للداخل على الخارج، وتحول النداء المرتفع إلى إشارة للكبرياء الزائف.

ما قالته أقوال الصحابة عن الصوت العالي

أظهر الصحابة رضي الله عنهم نموذجاً حياً لهذه المعاني، إذ اعتبروا السكوت مصدر قوة لا تُهزم، بينما رأوا في الإعلان العنيف باباً للأسف. مثلاً، أفاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لم يشعر بالندم قط لسكوته، لكن كلامه أثار ندمه مرات؛ فهو الذي كان يُثير الجبال بغضبه، إلا أنه اعتمد السكينة كوسيلة للإدراك الصائب. أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فربط الإنسان بإنجازه الفعلي لا بنبرته العالية، محتجًا بأن التقدير يأتي من الخير الذي يُقدم. وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أشار إلى أن من يُعادي الآخرين يحمل شراً داخلياً يُخفيه الضجيج. هؤلاء الكبار علّموا كيف يُكتسب الإجلال بالاستقرار لا بالهياج، محولين مبادئ الدين إلى ممارسة يومية تفوق الإزعاج نحو الغنى الروحي.

ما استفاد العلماء من تجارب الصوت العالي

انتقلت هذه المعاني إلى تفسيرات العلماء والمفكرين الذين اعتبروا اللسان سلاحاً خطيراً إن لم يُضبط. وصف الحسن البصري اللسان بملك يتطلب حكم العقل ليظل محمياً، وإلا يتحول إلى مصدر فساد. نصح الإمام الشافعي بعدم الرد على الأحمق، فالسكوت أفضل من إثارة النداء المرتفع. ميّز ابن القيم بين الجاهل المعروف بنبرته العالية، والحكيم الذي يرتفع شأنه بالعقلانية. أما سفيان الثوري، فأكد أن الإكثار من الكلام يزيد الزلل، مشيراً إلى أن الصوت العالي يُدارِي عجزاً مؤقتاً.

لتوضيح التباين بين النداء المرتفع والمعنى الجوهري، إليك جدولاً يُلخص أبرز الدروس من التراث الإسلامي:

وفي إطار أشمل، يُلخص التعامل مع الصوت العالي في خطوات يمكن تطبيقها لبناء الشخصية:

• قيّم الجوهر الداخلي قبل الارتفاع في النبرة، لتجنب الكشف عن العدم.
• مارس السكوت في الحوارات، مسترشداً بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بالنافع أو الإمساك.
• أعطِ الأولوية للجهود النزيهة، كما يُركز الإسلام على النوايا لا المظاهر.
• استلهم من كلام الصحابة، كعمر في اختياره السكوت على الإفصاح.
• انتبه لحكماء مثل ابن القيم، الذين يرون في السكينة علوَ المنزلة.
• مارس التوازن اليومي، ليصبح السلوك أقوى من أي إعلام.

يظل النداء المرتفع مجرد أصداء تختفي سريعاً، مقابل بقاء أثر السلوك الراسخ في الوجدان، داعياً الجميع إلى التمسك بالسبيل الصحيح.