ا د هاني الضمور: الوثنيات المعنوية الحديثة: عبودية خفية في ثوب معاصر

ا د هاني الضمور: الوثنيات المعنوية الحديثة: عبودية خفية في ثوب معاصر

ا د هاني الضمور
في زمنٍ ظنّ فيه الإنسان أنه تحرّر من قيود الماضي، وتجاوز عهود الوثنية، ولّى وجهه شطر أوثانٍ أخرى، لا تُرى بالعين، ولا تُلمَس باليد، لكنها تقيّده من حيث لا يدري. إنها الوثنيات المعنوية، التي تأخذ صور المال والشهرة، والقوة والسلطة، والأيديولوجيات المتسلطة، والأنماط الاستهلاكية التي تحكم حياة الناس دون أن يعوا ذلك. ليست هذه الأوثان أحجارًا صمّاء تُعبد في المعابد، بل هي قيود خفيّة تحيط بالقلب والعقل، وتسرق الإنسان من جوهره الروحي، فتجعله أسيرًا لشهواته، وعابدًا لرغباته، وهو يظن أنه في قمة الحرية والانطلاق.
وفي قلب هذا المشهد، يبرز الإعلام كراعٍ لهذه الوثنيات، وصانعٍ لها، ومروّجٍ لأوهامها. لم يعد الإعلام مجرد مرآة تعكس الواقع، بل غدا آلةً ضخمةً تعيد تشكيل الوعي، وتصبغ الحقيقة بألوان تخدم مصالحه. فهو يرفع بعض الأشخاص إلى مصافّ الآلهة، يجعل المال معيار السعادة الوحيد، ويقدّم السلطة كأسمى ما يمكن للإنسان أن يناله. على الشاشات، وفي أعمدة الصحف، وعلى منصات التواصل، يُروّج لفكرة أن النجاح لا يُقاس إلا بعدد الأصفار في الحسابات البنكية، وأن الإنسان لا يكتمل إلا إذا كان مشهورًا، محبوبًا، متبوعًا بأعين المعجبين. في غمرة هذا الضجيج، يُمحى صوت العقل، ويُهمّش نداء الروح، فلا يبقى للإنسان إلا أن يركض في سباقٍ محمومٍ، يلهث خلف سرابٍ لا ينتهي.
أما الشهرة، فقد غدت صنمًا جديدًا، يتهافت الناس على عبادته. لم يعد مهمًا ما يقدّمه المرء من قيمة، أو ما يحمله من فكر، بقدر ما يهم عدد متابعيه، وانتشار اسمه على الألسن. المشاهير يُقدَّمون كنماذج يُحتذى بها، حتى لو كانوا لا يملكون سوى قشور لامعة، وأفكار جوفاء. والمجتمعات، وهي تبحث عن قدوات، تقع في فخّ الإعلام الذي يصنع نجومًا من لا شيء، ثم يقدّمهم كقادة للرأي، فينحرف الذوق، ويفسد الفهم، ويُستبدل البناء الحقيقي بالتلميع الزائف.
أما السلطة، فهي الوثن الذي يتسلل إلى النفوس دون أن يشعر به أصحابه. يرتقي البعض في المناصب، فيتوهّمون أنهم فوق الناس، وأن كلماتهم قوانين لا تقبل النقاش. الإعلام هنا شريكٌ في هذه اللعبة، إذ يصنع زعامات من ورق، يروّج لها، ويخفي عيوبها، حتى تصبح أشبه بأصنام العصر، التي يُطلب من الجميع أن ينحنوا أمامها، أو يُقصَوا خارج السرب إن رفضوا ذلك. غير أن كل هذا يتناقض مع جوهر الإيمان، الذي يعلّم الإنسان أن القوة والسلطة ليست سوى امتحانٍ، وأن أعظم الناس ليس أكثرهم نفوذًا، بل أكثرهم قربًا من الحق، وأكثرهم تواضعًا في العطاء.
في هذا العالم المزدحم بالأفكار، تحلّ الوثنيات الأيديولوجية كأكثر الأوثان تعصبًا، إذ تُفرض بعض الأفكار كحقيقة مطلقة، لا يُسمح لأحد بمناقشتها، ولا يُقبل سوى الامتثال لها. منابر الإعلام تُحارب من يخرج عن هذه القوالب، فتغلق أبواب الحوار، وتضع الناس في دوائر مغلقة، حيث لا يُسمح لهم إلا برؤية ما تم اختياره لهم مسبقًا. وحين تُمحى إمكانية الاختلاف، وتُصادر حرية التفكير، لا يعود العقل قادرًا على التمييز، ويصبح الناس مجرد أتباعٍ مبرمجين، يُردّدون ما يُملى عليهم دون إدراك.
ومع كل هذا، فإن آثار هذه الوثنيات المعنوية لا تقف عند حدود الفكر، بل تمتد إلى سلوك المجتمعات. حين يصبح المال هو الإله، تتآكل قيم العطاء، ويغيب الإحساس بالآخر. حين تُقدّس الشهرة، تتحول العلاقات الإنسانية إلى استعراض، حيث يختفي الصدق، ويبقى المظهر. حين تتحكم الأيديولوجيات، يتشظى النسيج الاجتماعي، وينقسم الناس إلى فرق متناحرة، يظن كل منهم أنه على الحق المطلق، وغيره على الباطل المبين.
لكن، في وسط هذه العتمة، يبقى النور قائمًا لمن أراد أن يبصر. التحرر من هذه الوثنيات يبدأ من العودة إلى الإيمان العميق، حيث يدرك الإنسان أن المال وسيلة لا غاية، وأن الشهرة زائلة، وأن القوة امتحان، وأن الفكر لا ينبغي أن يكون سجنًا، بل ساحةً رحبةً للحوار والتأمل. التربية على القيم الأخلاقية هي السياج الذي يحمي الأجيال من الانزلاق في هاوية المادية العمياء، وامتلاك الوعي الإعلامي هو الدرع الذي يحمي العقول من الانقياد الأعمى. فليس كل ما يُعرض علينا حقيقة، وليس كل ما يُلمّع ذهبًا.
العالم اليوم يمضي مسرعًا نحو الوثنية الحديثة، لكن يبقى في يد الإنسان القرار: إما أن ينحني أمام الأوثان التي تُفرض عليه، أو أن يتحرر منها بالإيمان والوعي والبصيرة. وكما كان الإيمان في الماضي هو مفتاح الخلاص من عبادة الأحجار، فإنه اليوم المفتاح ذاته للخلاص من عبودية الأوهام. ففي النهاية، لا راحة للقلب إلا في العودة إلى ما هو ثابت، إلى ما لا يخدع ولا يزول، إلى الله الذي لا تغرّه الأضواء، ولا تغيّره الأزمان. “أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”.
كاتب من الاردن

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close