محمد المخلافي: تزيف التاريخ وتأثيره على الصراعات المعاصرة في “سؤال النار” للكاتب العراقي علي لفتة سعيد

محمد المخلافي: تزيف التاريخ وتأثيره على الصراعات المعاصرة في “سؤال النار” للكاتب العراقي علي لفتة سعيد

محمد المخلافي
رواية “سؤال النار” للكاتب العراقي علي لفتة سعيد تُعد العمل السادس عشر له، وهي تأمل عميق في تأثير التاريخ على واقعنا المعاصر. تنطلق الرواية من إحباطات متجذرة، حيث يعبر البطل عن قلقه من دور المدونين في تشكيل الوعي الجمعي، متسائلًا: “لولاكم لما حصل ما حصل في العراق من دمار وتفجيرات وقتل…”.
تحمل الرواية في طياتها دعوة للقراء للتفكير في كيفية تأثير السرد التاريخي على فهمنا للعالم، مقدمةً رؤية معقدة للصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد في زمن يتسم بالعنف والتوتر. من خلال رحلة بطلها، تسلط الرواية الضوء على أهمية التساؤل كوسيلة لفهم الحياة، مما يفتح المجال لاستكشاف تعقيدات الهوية.
تتألف الرواية من 248 صفحة، صدرت عن دار إسكرايب للنشر والتوزيع في القاهرة عام 2024. تدور أحداث الرواية حول شاب عراقي، خريج قسم التاريخ، يعمل بائعًا للكتب في شارع المتنبي. تنقلب حياته تمامًا بعد مقتل والده في انفجار سيارة مفخخة، مما يجعله يتساءل: لماذا نقتل بعضنا؟
تبدأ رحلته في البحث عن جذور العنف من خلال القراءة، حيث يلتقي برجل مسن يرمز إلى التاريخ، مما يؤدي إلى مناقشات فكرية تعكس الصراعات بين الماضي والحاضر. يستخدم الكاتب أسلوب التغريب الواقعي لاستحضار شخصيات تاريخية، مما يجعل القارئ يتأمل في دور التاريخ في تشكيل الفكر والعنف في واقعنا المعاصر.
تسلط الرواية الضوء على أهمية الاستمرار في التساؤل كوسيلة لفهم الحياة، دون تقديم إجابات حاسمة، مما يفتح المجال للتأمل في تعقيدات التاريخ والواقع. تعكس تجربة الكاتب صراعًا داخليًا عميقًا، حيث يسعى للبحث عن المعنى في عالم مليء بالأسئلة الوجودية. يواجه الكاتب واقعًا صادمًا بعد فقدان شخص عزيز في حادث عنف، مما يجعله يعيش مشاعر القلق والخوف، لكنه يتمسك بالمعرفة من خلال القراءة.
لماذا نعيش في صراع؟
تظهر التناقضات بين حياة الكاتب اليومية وعالمه الداخلي، حيث يشعر بالضياع رغم وجوده بين عائلته ومكان عمله. تصبح الأسئلة الوجودية، مثل “لماذا نعيش في صراع؟”، محور تفكيره، مما يعكس قلقه بشأن الحياة والموت.
يتأثر الكاتب بشكل عميق بفقدان والده نتيجة العنف، مما يزيد من شعوره بعدم الاستقرار. يتجلى حزنه في استحضار الذكريات والتفاصيل المرتبطة به. في هذا السياق، تصبح القراءة وسيلة للهروب والتعامل مع الألم، ورغم ذلك، يشعر الكاتب بصراع آخر عندما يدرك أن القراءة تأخذ من وقته مع عائلته.
تبدأ الرحلة من لحظة تأمل في الصفعات التاريخية، حيث يستخدم الكاتب تقنية السرد المتداخل التي تدمج بين القراءة والتجربة الحياتية. يستحضر مشهدًا سينمائيًا يعكس تأثير الثقافة البصرية على الذاكرة والانطباع. هنا، يبدو أن التاريخ يصبح تجربة حسية تتداخل فيها الصور والكلمات.
من خلال الحوار الداخلي، يتضح الصراع بين الرغبة في المعرفة والواقع المحيط. تتداخل شخصيات الأسرة في حياة الكاتب، مما يعكس الديناميات المعقدة للعلاقات الأسرية وتأثيرها على التفكير. يستحضر الكاتب صورة والدته، التي تمثل رمزًا للحنان والدعاء، مما يضيف بعدًا عاطفيًا للرواية.
تعتبر الكتب شخصيات رئيسية في الرواية، حيث تمثل المعرفة والتاريخ. تتباين الآراء حول الأحداث التاريخية، مما يخلق شعورًا بالضياع والارتباك. يتساءل الكاتب عن مصداقية ما يُقرأ، مما يعكس أزمة الثقة في الروايات التاريخية والأيديولوجيات السائدة.
الهوية والتاريخ والوجود
يقدم الكاتب تجربة سردية غنية تتناول مواضيع الهوية والتاريخ والوجود، من خلال حوار داخلي مع شخصية تمثل الماضي أو التاريخ. يبدأ بإشارة إلى السلاطين والملوك، مما يخلق جوًا من الفخامة والسلطة، لكنه يتحول سريعًا إلى استفسارات حول المسؤولية والحقائق التاريخية.
تتداخل الشخصيات في الرواية، حيث يتحدث الراوي إلى شخصية أخرى تجسد صوت التاريخ. يُظهر الحوار بينهما توترًا واضحًا، يعكس الخلاف حول طبيعة الحقيقة وكيفية توثيقها. يتساءل الراوي عن دور الكلمات والأفكار في تشكيل الواقع، ويتناول كيف يمكن لكلمة واحدة أن تؤدي إلى الفوضى والحرب.
تتجلى مشاعر القلق والتوتر في سرد الرواية، حيث يتناول الراوي خوفه من المساءلة واللوم، مما يعكس صراعه الداخلي بين الرغبة في المعرفة والقلق من العواقب. يُبرز الحوار مع الشخصية التاريخية التوترات بين الأجيال، ويطرح أسئلة عميقة حول الذاكرة الجماعية وكتابة التاريخ.
تظهر الكتابة كعنصر أساسي، حيث تمثل الكتب وسيلة لفهم الماضي. ومع ذلك، يشعر الراوي بالتشوش والارتباك بسبب تضارب الروايات، ويتساءل: “لماذا نحن من نتحمل التبعات؟”، مما يعكس إحباطه من الظروف التاريخية والاجتماعية.
اللغة والأسلوب
تتميز رواية “سؤال النار” بلغة غنية ومعبرة تعكس عمق أفكار ومشاعر البطل. يستخدم الكاتب لغة فصحى قوية ذات طابع أدبي، مما يضفي على الرواية جمالية وكثافة تعبيرية. تتسم المفردات بالتنوع، حيث يستعين الكاتب بكلمات تعبر عن الألم والعنف والأمل، مما يخلق تأثيرًا عاطفيًا قويًا على القارئ.
يعتمد الكاتب على تقنية السرد المتداخل، حيث يجمع بين التجارب الشخصية والتأملات التاريخية، مما يعزز من شعور القارئ بالانغماس في الأفكار المعقدة. يُظهر الكاتب شخصيات تاريخية من خلال أسلوب التغريب الواقعي، مما يضيف بعدًا فلسفيًا للرواية ويجعل القارئ يتفاعل مع الأفكار المطروحة بشكل أعمق. كما يُستخدم الحوار الداخلي بشكل مكثف، مما يتيح للقارئ فهم الصراعات النفسية التي يعيشها البطل، ويسلط الضوء على التوتر بين الرغبة في المعرفة والخوف من العواقب.
يستعين الكاتب بصور بلاغية تعزز من المعاني العميقة للنص، مثل الربط بين الكلمات والعنف، مما يخلق تفاعلًا فكريًا قويًا. ويستخدم تفاصيل دقيقة من حياة الشخصيات، مما يُضفي مصداقية ويعمق التجربة الإنسانية المعروضة. تتناول الرواية مواضيع تتعلق بالتاريخ والهوية والوجود، مما يجعلها نصًا غنيًا بالتأملات الفلسفية. يُبرز الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية، حيث يتعامل مع فقدان الأب وتأثير ذلك على فهمه للعالم، مما يجعل القارئ يتعاطف مع معاناته.
اقتباسات من الرواية
الاقتباس الأول:”فرشت على الأرض أكثر من 20 كتابًا تبدأ عناوينها بكلمة (تاريخ) مثلما وضعت قبالتها 20 كتابًا في التفسير، ومثلها وضعت في الجهة الثالثة كتبًا في التحليل والتدقيق. أبقيت ضلعا في المربع لأقف فيه. أشير إلى الكتب الأولى مخاطبًا روحي: هذا الكتاب يعاكس هذا، وذاك ينسف ما جاء في الاثنين، وآخر يكذب، وذاك يشذب ويضيف ويحذف ويستنكر، ويعطي الدليل على أن ما ذكر غير معقول.”
هذا الاقتباس يعكس صراعًا داخليًا بين المعرفة والجهل، حيث يبرز الكاتب تنوع الآراء من خلال عرض مجموعة من الكتب التي تتناول مواضيع مختلفة. هذا التنوع يشير إلى الفوضى المعرفية التي قد يواجهها القارئ في سعيه لفهم الحقيقة. يتجلى الصراع الفكري في تعبير الكاتب عن كيفية تناقض الآراء، مما يعكس حالة من عدم اليقين حول ما يُعتبر معرفة صحيحة. كما أن وقوفه في “ضلعا في المربع” يعكس شعورًا بالعزلة أو الإحباط في مواجهة هذه الأفكار المتباينة. في النهاية، يدعو الاقتباس القارئ للتفكير النقدي والتحقق من المعلومات، مما يبرز التحديات التي يواجهها الأفراد في عصر المعلومات.
الاقتباس الثاني:”أردت مسايرته في وضعه ارتفعت الشمس وخرج الناس من البيوت. رحنا نسمع زعيق الآباء، وبكاء الأطفال، ونشعر بقلق النساء.. عمال، وموظفون، وطلبة وتلاميذ، وربات بيوت. راح يرمي إبهاره على المشهد الذي أمامه البيوت فتحت أبوابها دفعة واحدة، خرج مَنْ فيها إلى بطون الشوارع، في اتجاهات متعاكسة، أجساد ترتدي ملابس متنوعة لم ير مثلها من قبل، خارطة الأزياء أصابته بالدوار، أخبرني بذلك، قلت له: هذه متغيرات العصر الجديد فنحن في الألفية الثالثة التي لا نعرف كيف سيدون زملاؤك واقعنا المتشعب.”
هذا الاقتباس يعكس مشهدًا حيويًا يعبر عن التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تحدث في العصر الحديث. من خلال وصف الكاتب لارتفاع الشمس وخروج الناس من البيوت، يتم تصوير الحياة اليومية التي تتسم بالحركة والنشاط. الأصوات المتنوعة مثل زعيق الآباء وبكاء الأطفال تعكس الفوضى والقلق الذي يعيشه المجتمع، مما يبرز التوترات والتحديات التي تواجه الأفراد في حياتهم اليومية. تظهر الشخصيات المختلفة، مثل العمال والموظفين والطلبة، تنوع المجتمع وتعدد أدواره. هذا التنوع في الأزياء الذي يسبب الدوار للشخصية الرئيسية يعكس التغيرات السريعة في الثقافة والموضة، مما يدل على أن العصر الجديد يحمل معه متغيرات لم يكن من السهل استيعابها. الحوار بين الشخصيتين يشير إلى عدم اليقين حول كيفية توثيق هذه التغيرات، مما يعكس القلق من المستقبل وكيفية فهم الواقع المتشعب. ما وراء السطور يكشف عن الصراع بين التقليد والحداثة، حيث يسعى الأفراد للتكيف مع التغيرات السريعة في المجتمع. كما يعكس الاقتباس أهمية الوعي بالتغيرات الثقافية والاجتماعية وكيف تؤثر على الهوية الفردية والجماعية.
قراءة في عنوان الرواية “سؤال النار”
عنوان رواية “سؤال النار” يحمل دلالات قوية تعكس مضمون العمل. كلمة “سؤال” تشير إلى البحث عن إجابات وتعكس فضول البطل وقلقه، بينما “النار” ترمز إلى العنف والألم، وهي عناصر رئيسية في السياق العراقي. يجسد العنوان صراع المعرفة مع الجهل، حيث يمثل السؤال الرغبة في الفهم، والنار تعكس العواقب المدمرة للعنف. يتناسب العنوان مع رحلة البطل في محاولة فهم العنف الذي يحيط به بعد فقدان والده، مما يبرز أهمية التساؤل كوسيلة لفهم تعقيدات الحياة. كما يُظهر العنوان عمق الصراعات الوجودية، مشيرًا إلى أن البحث عن الحقيقة قد يواجه عواقب صعبة.
بشكل عام، تعكس الرواية جوهر الواقع المعاصر، وتسلط الضوء على الضغط المتزايد الذي يمارسه التاريخ المزيف علينا، وتطرح تساؤلات حقيقية حول سبب تصارعنا رغم انتمائنا إلى مكان ودين وأمة واحدة. تُظهر الرواية كيف أن أزمة التاريخ المعاصر تنبع من صراعات المؤرخين والفقهاء والساسة، حيث يُكتب التاريخ غالبًا بأيدي المنتصرين أو أولئك الذين يتبعون السلطة. تدعو الرواية القارئ إلى التفكير في دوره في تشكيل التاريخ، وتحثنا على إعادة النظر في سردياتنا الجماعية.
كاتب وناقد يمني

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close