عودة مفاجئة للشخصية الليبية المثيرة للجدل: ما الأسباب والتداعيات؟

عاش الشاعر والكاتب الليبي عمر الكدي تجربة فريدة جعلته يحمل على عاتقه همّ ليبيا فكريًا وسياسيًا، حيث اصطدم بجذور وطنه منذ نشأته في غريان، حاضرة الجبل الغربي، وهي المنطقة التي احتضنت أجداده في كهوف حفروها بأيديهم الحجرية. لم يكن انتقاله إلى طرابلس في شبابه مجرد تغيير مكان، بل بداية رحلة معرفية وتأملية بدأها بدراسة الفنون والصنائع في عهد الملكية، حيث تلقى العلم على يد أساتذة ليبيين وإيطاليين، ثم توالت خطواته الدراسية التقنية بين بريطانيا ومالطا، مما أتاح له رؤية أعمق لتركيبة وطنه. تنقل عمر الكدي بين أرجاء ليبيا، مستخدمًا الشعر كصوت لا يهدأ في رحلته الطويلة، وبوابة لدخول عالم الصحافة الليبية في ظروف عصيبة، حيث تحدى القيود مستخدمًا لغة بوح خافتة. غير أن أزمته مع السلطة أجبرته على اللجوء إلى هولندا، هناك تعلم اللغة وعمل في وسائل إعلامية، لكن تفاؤله وحبه للوطن ظلّا راسخين في أعماله الشعرية، خاصة قصيدته الشهيرة «بلادُ تحبّها وتزدريك» التي وجه فيها خطابًا حارًا لليبيا.

عمر الكدي والشعر كنافذة على الشخصية الليبية المعقدة

في قصيدته الكبرى «بلادُ تحبّها وتزدريك»، جالس عمر الكدي وطنه في غرفة التشريح باستخدام مشرط الضمير، عبر مونولوغ حاد يكشف وجدان ليبيا المركب والمتناقض، الذي لا يستقر على حال. هذه القصيدة ليست مجرد مزيج من الكلمات، بل انعكاس لصراع الهوية الوطنية التي عاشها الكاتب بنفسه، حيث بدا الوطن ككيان يتحمل ألقابًا متوحشة وملامح مشاغبة، رغم الحب العميق الذي يكنّه له. انعكس هذا الصراع بوضوح في كتابه «تأملات في الشخصية الليبية»، الذي يُعد مرآة تعكس ملامح الليبيين وتاريخهم وترابهم الذي شكلتهم عبر الزمن. في هذا العمل، جمع بين الأسطورة والواقع، بين الماضي والحاضر، مقدّمًا لوحات حزينة عن واقع الغياب والتجوال وسط عواصف الجفاف والفقر والنكبات الاجتماعية، حيث كانت الأسطورة حيّة تغذي الروح وتمنح الصبر للسكان، سواء الراحلين أو المقيمين.

شخصية ليبيا الوطنية وأصول الهوية عبر التاريخ والنقد البنّاء

تركّز أبحاث عمر الكدي على شخصية ليبيا الوطنية وتكوين هويتها، أحد الموضوعات التي ظلت غائبة عن الدراسات الاجتماعية والفكرية في البلاد. فبينما اجتاحت الموجة القومية العربية ليبيا في أواخر خمسينيات القرن العشرين وذابت فيها المشاعر الوطنية في الشعارات العروبية، برزت محاولات شجاعة لإعادة استنهاض الهوية الليبية، كان لها عبد الحميد البكوش، رئيس الوزراء الشاب والمثقف، الدور الأكبر في إطلاق هذا الخطاب عام 1967، مما أطلق جدلاً واسعًا بين المؤيدين والمعارضين لهذه الفكرة. وفي مقدمته لكتابه، أوضح عمر الكدي أن النهضة الحقيقية لأي أمة تبدأ برحلة محفوفة بالألم والنقد المنهجي للجذور، بعيدًا عن أي حنين مفرط، لتستأصل الخلل وتعيد تشكيل الهوية بوعي حقيقي. استعرض كتابه عدة أوجه أساسية مثل أنماط الإنتاج والفن الشعبي وتوزيع العمل بين الرجال والنساء، والتكوين القبلي وتحالفاته، وأثر الأولياء الصالحين في المجتمع الليبي، بالإضافة إلى العادات المتوارثة في المطبخ والملبس التي تعود إلى العصور الرومانية.

الأسطورة الليبية الثلاثية ودورها في تشكيل النسيج الاجتماعي والاقتصادي

تعتبر الأسطورة الليبية الثلاثية – الحويتة، الخميسة، والقرين – حجر الزاوية في فهم التكوين القديم والشخصية الوطنية، إذ تمثل هذه الرموز مكونات جغرافية واجتماعية مختلفة من البلاد؛ الحويتة ترمز إلى سكان السواحل، الخميسة إلى سكان الجنوب، والقرين إلى سكان الوسط ومناطق الصحراء. استشهد عمر الكدي بالأسماء الثلاثية التي حملتها المدن والأقاليم والولايات الليبية قبل توحيد الدولة، معتبرًا أن هذه الرموز ليست مجرد أسماء، بل تمثل تاريخًا اجتماعيًا متشابكًا يظهر بوضوح عبر الزمن. عرض الكاتب العلاقة بين المدينة والقرية والواحة، والبدوي والحضري، ودرس التفاعل المعقد بين هذه الفئات في إطار جغرافي وثقافي متنوع. بهذا الشكل، وضع ليبيا في معمل الأنثولوجيا الكبير ليبين كيف شكلت الجغرافيا والتاريخ ملامح نسيجها الاجتماعي، مشيرًا إلى أن الأرض هي المساحة التي تُزرع فيها بذور البشر وتروى بالحركة الاجتماعية والاقتصادية سواء كانت سلمية أو عنيفة، ليبقى الليبيون عبر العصور أبناء هذا الوطن المتنوع ثقافيًا وجغرافيًا، بين البحر الأبيض المتوسط من جهة، والصحراء الكبرى من جهة أخرى.

الرمز التمثيل الجغرافي الدلالة الاجتماعية والثقافية
الحويتة سكان السواحل تمثل التنوع البحري والثقافة الساحلية
الخميسة سكان الجنوب رمز للقبائل والبدو في الصحراء
القرين سكان الوسط والمناطق الصحراوية تجسيد لمزيج الحضري والبدوي في مناطق الصحراء