“ساحة المرجة” في دمشق.. قبلة الباحثين عن ذويهم المفقودين
دمشق/ عبد السلام فايز/ الأناضول
ظلت “ساحة المرجة” في قلب العاصمة السورية دمشق ملاذًا جميلًا على ضفاف نهر بردى، حتى تحولت إلى لوحة مؤلمة تحمل صور مفقودين كانوا معتقلين في سجون نظام بشار الأسد.
تحولت الصور المعلّقة عند مدخل الساحة إلى رمز للألم والحزن، ولم تعد الساحة مكانا للراحة بل ناقوسا يذكر دائمًا بمأساة المفقودين، لتُضيف طابعًا من الأسى إلى هذا الموقع البارز.
ومع سقوط نظام الأسد، برزت قضية المفقودين إلى الواجهة، كاشفةً عن حجم الانتهاكات في السجون التي احتُجز فيها المعتقلون خلال الحرب السورية (2011-2024).
تعرض هؤلاء لتعذيب، كان من أبشع مراكزه سجن صيدنايا “سيئ السمعة” التابع لوزارة دفاع النظام البائد.
ويتجاوز عدد المختفين قسرا في سوريا 112 ألف شخص، لم يعثر على أي منهم بعد فتح سجون النظام، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وتفيد تقارير دولية بأن عشرات آلاف المعتقلين قُتلوا داخل السجون بشكل منظم وسري، ودفنت جثامينهم في مقابر جماعية مجهولة المكان.
** رمز للنضال
وطالما كانت “ساحة المرجة” تحمل إرثًا تاريخيًا وتُعد من أبرز المعالم الرمزية بالمدينة، فقد ارتبطت بالنضال والمقاومة، إلى جانب أهميتها المعمارية والثقافية.
ولأنها كذلك، عمد السوريون بعد سقوط نظام الأسد إلى وضع صور المفقودين، مع معلومات عنهم وأرقام هواتف بعض أفراد عائلاتهم، في مسعى للحفاظ على رمزية الساحة، وإظهار مأساة المُغيبين.
وفي 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 بسطت فصائل سورية سيطرتها على البلاد، منهية 61 عاما من حكم حزب البعث و53 سنة من سيطرة أسرة الأسد.
** مجرد صورة
الأناضول زارت الساحة القريبة من سوق الحميدية الشهير والمسجد الأموي، وعاينت صور المفقودين وتفاعل المارة، والتقت عدداً من روادها.
وسط هذا المشهد، جلست ابتسام مشيش، والدة أحد المغيبين تتأمل صور ابنها الذي اعتقله نظام الأسد في العام 2012.
وقالت مشيش التي تعود أصولها إلى مدينة حلب (شمال) للأناضول: “أزور الساحة باستمرار، علّني أجد خيطًا يقودني إلى ابني غياث الذي لم أعرف أخباره منذ تاريخ اعتقاله”.
وتضيف بألم وأمل “كل ما بقي منه مجرد صورة معلقة في هذه الساحة”.
وتشير إلى أن ابنها كان يعمل مساعد سائق إحدى حافلات النقل العام، وأن نظام الأسد اعتقله بعد انتهاء عمله، ولم يكن له أي نشاط آخر.
ولم تتمالك الأم المكلومة نفسها وهي تتلمس صورة غياث، بل غلبتها دموعها وهي تقول: “13 سنة على فقدانه ولم أنسه لا ليلا ولا نهارا، ليتني متّ أنا وبقي هو على قيد الحياة”.
واجه السوريون على مدى سنوات حكم نظام الأسد خطر “المخبرين” المرتبطين بالأجهزة الأمنية، وكان دورهم كتابة تقارير استخباراتية “كيدية” تضع المواطنين في دائرة الشبهة ثم الاعتقال والتعذيب.
** الابتزاز
والدة غياث قالت إن العائلة تعرضت لابتزاز مالي من نظام الأسد لمعرفة مصير ابنها، أو أي معلومات عنه، لكن وضعها المادي المتردي حال دون ذلك، إلى أنْ اختفى أثر غياث بشكل نهائي.
الوالدة تابعت: “بحثت عنه كثيرا أنا وإخوته ووالده وصهره، وسألنا عنه في الأفرع (المقرات) الأمنية والسجون، ولم نحصل على إجابة”.
ولأن قلب الأم لا يفقد الأمل بسهولة، ظلّت الوالدة متمسكة بحلم لقاء نجلها رغم مرور السنين.
ومع سقوط نظام الأسد وإطلاق سراح المعتقلين، ازداد تعلقها برجاء أن يكون ابنها بين من استعادوا حريتهم، مترقبةً لحظة لقائه بين العائدين.
** في الوجدان
لم يكن غياث الاسم الوحيد، ولا صورته هي الوحيدة التي تروي حكاية المغيّبين، فهناك آخرون كُثر يشاركونه المصير ذاته.
وعلى مقربة من أم غياث، يجلس إيليا خوري (70 عاما) على ضفاف نهر بردى، ويقول للأناضول: “ساحة المرجة رمز للنضال منذ عقود، وبعد وضع صور المفقودين فيها زادت رمزيتها بالنسبة لنا”.
كان خوري متأثراً بمشهد الأهالي الذين يأتون من مناطق بعيدة لاستذكار أبنائهم المفقودين، قائلًا: “أرى عائلات المفقودين تزور الساحة، تحمل صور أحبائها، وتغرق في ذكرياتهم… إنه مشهد مؤلم للغاية”.
وأشار إلى أن الساحة لم تعد مكانا يخص الدمشقيين وحدهم، بل مقصدًا لأبناء مختلف المحافظات السورية، “فمن هنا يمر ابن درعا والقنيطرة (جنوبًا)، ودير الزور (شمال شرق)، وحلب (شمال)، وغيرهم، في محاولة لإيجاد أثر لمن فقدوا”.
وأشار بيده إلى الصور المعلقة على الجدران، وقال بحزن: “ما أقسى أن يتحول الابن إلى مجرد صورة، لا أخبار عنه ولا قبر يضم جثمانه… يتمنى ذووهم لو كان لهم حتى مكان يزورونه، لكن الأسد لم يكتفِ بحرمانهم من أبنائهم، بل سلبهم حتى فرصة وداعهم الأخير”.
وبعد فرار الأسد وسيطرة الفصائل السورية على المدن وفتح السجون والمعتقلات والأفرع الأمنية والإفراج عن المعتقلين، ظل عشرات آلاف المعتقلين مفقودين دون أثر، مع اكتشاف مقابر جماعية تشير إلى احتمال أن يكونوا في عداد الموتى.
ويقول السوريون إن زوال نظام الأسد يمثل نهاية حقبة رعب عايشوها على مدى عقود، إذ شكلت سجونه كوابيس لهم جراء عمليات التعذيب الممنهج، والتنكيل، والإخفاء القسري.
وقال رئيس الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للتحقيق في الجرائم الخطيرة في سوريا، روبرت بيتي، إن الأدلة تؤكد أن سوريا شهدت تحت حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، “جرائم فريدة من نوعها وغير مسبوقة ارتُكبت بشكل ممنهج”.
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: