نبيه القاسم: في إحياء ذكرى ميلاد الشاعر محمود درويش محمود درويش في حواره مع الذّات
د. نبيه القاسم
كلمة أولى
محمود درويش هو المبدع الذي كتبت عنه الدراسات والمقالات والأطروحات الأكاديمية الكثيرة، وشغل الناس على اختلاف انتماءاتهم وأذواقهم، والدارسين مع كل قصيدة يكتبها، وبعد كل كتاب يصدر له.
لكن محمود درويش كان يُكثر الشكوى من النقّاد والنّقد، ويرى أنه لم يكتب عنه الذي ينتظره. فقد انشغل معظم مَن كتب عن محمود بجمالية النّص، ووقف على كل حرف وكلمة واستعارة، ومجاز وتفعيلة وإيقاع. لكن القليل منهم مَن تجاوز ذلك إلى العمق، إلى ما تُخفيه الكلمة ويوحي به الإيقاع ويُغَلفه المجاز، وتدفع إليه الاستعارة، وترسمه الصورة. معظم مَن كتب عن محمود انشغل بالنص وبقوقعة محمود درويش في صورته النمطيّة التي رُسمَت له كإنسان وكشاعر.
وظلّ الذي ينتظره مفقودا..
يغتالني النقّاد أحيان:
يريدون القصيدة ذاتَها
والاستعارة ذاتها..
فإذا مشيتُ على طريق جانبيّ شارداً
قالوا: لقد خانَ الطريقَ
وإنْ عثرتُ على بلاغة عُشبة
قالوا: تخلّى عن عناد السنديان
وإنْ رأيتُ الوردَ أصفرً في الربيع
تساءلوا: أينَ الدّمُ الوطنيّ في أوراقه؟
* * *
يغتالني النقّادُ أحياناً
وأنجو من قراءتهم،
وأشكرهم على سوء التّفاهم
ثمّ أبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ! (أثر الفراشة ص 109-110)
محمود الانسان
محمود الذي أقصده محمود الانسان العادي. محمود الطفل، الولد، الابن، الأخ، الصديق، الشاب، العاشق، المعشوق، الحزين، السعيد، الباكي، الضاحك، المعذّب، الغريب، التائه. محمود الذي يبحث عن الصديق الذي يريد أن يبوح له بما يخفي من أسرار، والحبيبة التي يضع رأسَه في حضنها ويبكي، والأم التي يريد أن تُمسّد له شعره، وتُهلل له ترانيم الأمومة الجميلة، وتُطعمه من خبز صاجها، وتُلقّمه بيدها، وتصبّ له فنجان القهوة. محمود الذي إذا ما عاد من حفل التهليل والتكبير الذي أقيم له، يجد نفسَه وحيدا بين جدران أربعة فلا مَن يكلمه، ولا مَن يشرب القهوة معه، ولا مَن ينام وهو على ثقة أنّ هناك مَن يرعاه في نومه، وإذا نام فينام مرعوبا خوف أن يحدث له ما حدث لمعين بسيسو “تتجه نحو الباب فلا ينفتح. تنسى أنّك قد سحبتَ المفتاح من القفل ووضعته على الطاولة. فأنتَ تفعل ذلك منذ فترة طويلة، منذ مات صاحبك في غرفة مغلقة: تُبقي القفل جاهزا لاستقبال مفتاح آخر تحتفظ به مُدَبّرة المنزل التي تأتي في منتصف النهار. فقد تموت ولا ينفتح الباب، فتبقى أنتَ والموت وحيدين في الداخل”. (1)
هذا المحمود لم يتناوله الدارسون والنقاد ومَن كتبوا عن محمود.
ومحمود هذا موجود في كل إصدار له.
وبرز في الحوارات المتعددة التي أقامها محمود وسجّلها نثرا وشعرا.
وكان استخدامه للضمائر المختلفة الوسيلة الناجحة في التعبير عنها ونقلها بكل حدّتها وقسوتها.
كلّ منّا عدّة أشخاص في واحد
يكتشف كلّ واحد منّا إذا ما خلا إلى نفسه وراجعها الحساب أنه يتشظى إلى عدّة شخصيات تُكوّنه من حيث لا يدري، تُحاوره ويُحاورها. فمنذ أن يُنبّهك جرسُ الساعة تقوم مخاطبا نفسك “لو بإمكاني النوم أكثر، وعليّ الإسراع. أيّ أعمال شاقّة عليّ هذا اليوم. لأتناول فطوري سَريعا. لا بأس بهيئتي العامّة. التعبُ يبدو عليّ بسبب سهر الأمس. ماذا سيقول فلان عن قرارات الأمس. سأواجهه بالحقائق الصعبة. ” وهكذا يستمر الواحد كلّ مع ذاته ومحاوراتها الخاصة.
فكل واحد هو عالم قائم بذاته، هو الواحد والكل، والفَرد والجَمع، أحيانا يتحاور مع نفسه بضمير المتكلم، وأحيانا ينشطر إلى إثنين ويتحاور بضمير المخاطب، وأحيانا يتقمّص الكلّ ويتكلم بضمير الجمع، وفي بعض الحالات يُغيّب نفسَه فيحاورها بضمير الغائب. ويكون الواحد في هذه الحالات الأصدقَ مع نفسه لأنه يتَعرّى أمام ذاته فيُصارحها ويُكاشفها.
الأسلوب الحواري
والأسلوب الحواري في الكلام هو شكل من أشكال التفاعل اللفظي، وكما يقول ميخائيل باختين:” من الطبيعي ألاّ يكون الحوار بمعناه الضيّق سوى إحدى صيغ التفاعل اللفظي، لكن يمكن أن نفهم الحوار بمعناه الواسع. أي ليس فقط كتبادل بصوت عال يستدعي تحاور افراد متواجهين، ولكن نعني به تبادلا لفظيّا كيف كان نوعه”(2).
والحوار الدرامي يأتي على شكلين: “حوار داخلي ينقسم فيه الصوت الأساسي للنص على نفسه حين يحاور الشاعر ذاته ساعة أن يحدث انشطار نفسي في لحظات تأزّميّة أو شعور بالإستلاب. وهذا ما نسميه بالمونولوج”(3)
والشكل الثاني للحوار هو “الحوار الثنائي الذي يتضمّن صوتين مختلفين يُساهمان بحوارهما داخل النص في بناء رؤية الشاعر لعالمه وموقفه الجمالي والفكري.”(3) يقول محمود درويش:
لقد قالت لي الأيام إذهب في المكان
تجد زمانك عائدا من موج عينيها
فقلت الجسم لا يكفي لنظرتها
وهذا البحر
ما اسم الأرض؟
بحر أخضر، آثار أقدام، دويلات، لصوص، عاشقات،
أنبياء، ما اسم الأرض؟
شكل حبيبة يرميك قرب البحر
ما اسم البحر؟
حدّ الأرض. حارسها، حصار الماء . أزرق أزرق
امتدّت يدان إلى عناق البحر فاحتفل القراصنة
البدائيّون والمتحضّرون بجثّة. فصرختُ: أنت
البحرُ. ما اسم البحر؟
جسم حبيبة يرميك قرب الأرض. (4)
والثاني الحوار الخارجي: الديالوج. وهو عند محمود درويش يأتي كوظيفة. “بمعنى أن الحوار له دوره البنائي في مجمل العلاقات النصيّة”(5)، وفي “تعميق الموقف الغنائي وتنميته من خلال تفريد الصوت الجماعي إلى آحاده في تفاعلها الكلامي أو حوارها”(6). وفي المصالحة بين اللغة الشعرية والشكل الدرامي حيث “لا يلتقي الصوتان عند دلالة جزئية وإنما يشتبكان في أفق المعنى الشعري الكلي حيث تكسو لحظةَ الحوار ظلال رمزية تُبعد بها عن الوقوع في دائرة المباشرة وتمنحها عمقا انسانيا”(7) وتمزج ما بين التجربة الشخصية والهموم العامة، “وينعكس التوتر بين العام والخاص على المعنى، وذلك يبدو في موضوعات الحب والمرأة، وعلاقة الانسان بالطبيعة وبالطفولة والمدن وبالمنفى”(8). حيث يبدأ محمود درويش من تجربة شخصية ليعطيها إطارا عاما حيث “يتبادل “أنا” الشاعر المتكلم و”أنا” الجامعية أو نحن”(9). فيكون الاندماج بين “الأنا” و “النحن” أي الذات والجماعة في الحوار الدرامي الذي يجريه ما بين الأنا والأنتِ كما في قصيدة “يطير الحمام”:
قلت: نسيتُ انتباه يديك
نسيتُ التراتيلَ فوق جروحي
فكم مرّة تستطيعين أن تولدي في مَنامي
وكم مرّة تستطيعين أنْ تقتليني لأصرخَ إنّي أحبّك كي تستريحي
أناديكِ قبل الكلام
أطيرُ بخصركِ قبل وصولي إليكِ
فكم مرّة تستطيعين أن تضعي في مناقير الحمام
عناوين روحي؟ وأن تختفي كالمدى في سفوحي
لأدرك أنّكِ بابل مصر وشام
يطير الحمام
يحطّ الحمام
-إلى أين تأخذني يا حبيبي من والدي
ومن شجري. ومن سريري الصغير. ومن ضجري
من مَراياي من قمري، من خزانة عمري ومن سَهري، من ثيابي
ومن خفَري، إلى أين تأخذني يا حبيبي.. إلى أين؟
تُشعل في أذني البراري، تحملني
موجتين، وتكسر ضلعين تشربني ثم توقدني ثم تتركني
في طريق الهواء إليكَ..
حرام حرام
يطيرُ الحمام
يحطّ الحمام. (10)
السؤال المعذّب والاستفزاز المُثير وقرار الرّحيل
يقف المتتبع لشعر ونثر محمود درويش منذ ترك الوطن عام 1970 على سيرة ذاتية تتوزّع على حلقات متتابعة مترابطة تُكمل الواحدةُ سابقتَها، وكثيرا ما تَتداخل فيها، بطلها هو محمود درويش الذي كغيره من أبناء شعبه عذّبه السؤال الدائم:
– مَن أنت؟ وماذا يعني الوطن لك؟ وأيّهما أكثر إيلاما أن تكون لاجئا في أرض سواك أم تكون لاجئا في أرضك؟!
واستفزته مقولة الفيلسوف الصهيوني الوجودي مارتن بوبر: “إنّ الانسان يرتبط بما حوله عن طريقين: طريق “أنا وهو”وطريق “أنا وأنت”. علاقة “أنا وهو” توجد في المكان والزمان وتخضع لقانون السببية. وفي هذه العلاقة لا تظهر الحرية، بل الضرورة. أمّا علاقة “أنا وأنت” فتوجد خارج الزمان والمكان وهي مستقلة عن قانون السببية. وتظهر هنا الحرية لا الضرورة. على هذا الأساس. يكون الوجود غير الحقيقي للانسحان عندما يوجد في علاقة “أنا وهو”. والدين اليهودي هو الدين الحقيقي الوحيد القائم على أساس علاقة “أنا وأنت”. ولأن اليهود متمسكون بهذا الدين الحقيقي فإن علاقة اليهود بفلسطين ليست كعلاقة العرب بها. لأن العرب موجودون في فلسطين بعلاقة “أنا وهو” ولذا من السهل قطع هذه العلاقة ومن الممكن نقلهم إلى أمكنة أخرى.”(11)
محمود الذي قرّر أن يوجد الانسجام، ويجد الجواب على السؤال، ويُثبت سخافة مقولة مارتن بوبر، قرّر الرحيل وترك الوطن ليُحقّق الانسجام بين هويّته الغامضة على الورق والساطعة في القلب، وليجد الجوابَ على السؤال الذي يلاحقه طوال ساعات يومه:
– مَن أنت؟!
“فأن تكون منسجما مع نفسك ومع تاريخك معناه أن تكون حيث يكون شعبك(12) والوطن لا يعني الخارطة لأنها شبيهة بالرسم التجريدي, وقبر جدّك ليس إجابة لأن غابة صغيرة كفيلة بأن تخفيه. وأن تبقى بجوار الصخرة ليست أيضا إجابة كافية لأنّ اغترابك ليس شيئا ماديّا فقط”(13) وكان قرار الرحيل:
ليوم يحددني موعدا، قلتُ للكرمل: الآن أمضي.
وينتشر البحر بين السماء ومَدخل جرحي
وأذهبُ في أفق ينحني فوقنا، ويصلّي
لنا. أو يكسّرنا. هذه الأرض تُشبهنا
حين نأتي إليها. وتُشبهنا حين نذهب عنها.
تركتُ ورائي ملامحَها. واسمُها كان يمشي أمامي
يُسمّي ملامحها وانفجاري. تركتُ سرير الولادة
تركتُ ضريحا مُعدّا لأيّ كلام.
تركتُ التي أوجعَتها ذراعي. تركتُ التي أوجعتني يداها.
تُفتّش عن عاشق بعد خمس دقائق من هجرتي (14)
ثورة على الظلم وسحر الضوء الآتي من البعيد
محمود درويش ككثيرين غيره من الشباب العرب في إسرائيل في أواخر الخمسينات والستينات من القرن الماضي (القرن العشرين) رأى في الأشقاء في العالم العربي الأمل والخلاص، وحلم أن يكون بينهم في القاهرة ودمشق وبغداد التي يراها من خلال ما يسمع بأذنيه ما يسحره ويُؤجج حماسه ويلهفه ويشدّه إليها. وكانت الانتصارات لحركات التحرر في العالم العربي والآسيوي والإفريقي وأميركا اللاتينية تلهب خياله، ومثّل له جمال عبد الناصر البطل المخلص والمنتصر رغم الانكسارات والهزات، وكان لظهور حركة فتح شمسا مشرقة بعد هزيمة حزيران 1967وبعدها حرب الاستنزاف على قنال السويس أن تركت أثرها على الكثيرين من الشباب ودفعتهم لردّة الفعل العنيفة على ظلم وملاحقة السلطات الإسرائيلية لهم أن قرروا تَرك الوطن للعيش في بلد عربي، وبالتحديد مصر وسوريا.
خيبة الأمل
لكن محمود كغيره سرعان ما فُجع بعد رحيله بواقع العالم العربي وموقفه الرّافض للفلسطيني:
وكنتُ على باب أمّي هناك أنادي دمشق
فتسمع نبض دمي في حفيف صنوبركَ المبتعد
وتغسلني دجلةُ الخير حينَ أموت من الوَجد شوقا إلى أرض بابل.
وها أنذا الآن
حين دخلتُ إلى الجامع الأمويّ تساءلَ أهلُ دمشق:
مَن العاشقُ المُغترب؟
وكانت مياه الفرات ونافورة النيل تحذف آثار زنزانتي عن ضلوعي.
وحين وقفتُ على النيل يوما، وشاطىء دجلة يوما
تساءل كلّ الذين رأوا دهشتي
مَن السّائحُ المغترب؟ (15)
راشد حسين والحزن المشترك
ومشهد الفلسطيني المرفوض يتكرّر مع راشد حسين. ففي رسالة لمحمود درويش أرسلها من باريس يوم 25.8.1986 إلى سميح القاسم يقول فيها: “اتصل راشد حسين بي من نيويورك عندما كنت مقيما في القاهرة. دعوته إلى زيارتي فلبّى الدعوة بطيبته المعروفة. أوقفوه أربع ساعات في المطار. وحين أفرجوا عن قامته الفارعة، وعانقته مداعبا خصلة شعره الشاردة، قال لي اسمع! قلت: ماذا؟ قال:
واقف كلّي مذلّة في مطار القاهرة
ليتني كنت طليقا في سجون الناصرة
قلت له: مَن منّا لم تستقبله هذه الحسرة؟ ذاهبون إلى بلاد الأحلام ليدفعنا أوّل شرطي إلى بئر الخيبة. طأطأ شغفه وواصل العناق. وقلت له لأواسيه: حدث لي ذلك على الحدود السورية- اللبنانية في أول زيارة لدمشق بدعوة رسمية من وزارة الثقافة، حين وجد حارس الحدود اسمي مُدرجا على اللائحة السوداء. (16)
انشطار الذات والشعور بالوحدة
منذ ذلك اليوم الخاص الذي تركَ فيه الوطن وانتقل للحياة في المنفى حكم على نفسه من حيث لا يدري أن يعيش في شخصيتين متلازمتين، فشل في إذابة واحدتهما في الأخرى. “ولد الماضي فجأة كالفطر. صار لك ماض تراه بعيدا”(17) في هذه العودة التي لا تنفك تولد في الحاضر.
الوحدة الذاتية التي وجد نفسه فيها كل لحظة اختلى فيها مع نفسه تركته في مواجهته مع ذاته، لا يجد غيرها ليُحاورها ويكشف أمامها عن خوالج مشاعره وحقيقة الذي يفكر فيه. وهو يصارح سميح القاسم في إحدى رسائله (25.8.1986) “أصابني هذا الصباح ما أصابني أمس من بلوى ضعف حين أوصلتُ الصبيتين، ابنتي أخي، إلى المطار. جميع الركاب عائدون إلى ما هو لي، عائدون إلى صنوبرتي وسريري. وأنا ممنوع من التفكير بالعوة.. وممنوع من الرغبة في العودة. ماذا أصابني يا عزيزي. لماذا أعود إلى اكتشاف البسيط. ألئنّني كبرت دون أن أدري. ألئنّ الطفولة التي كبرت في غيابي دلّتني على أنّ الكلمات- مهما كبرت واتسعت واشتدت- لا تُنجب طفلا من لحم ودم، وأنه لا بدّ للطفل من أم؟ وأنني في حاجة عضوية ونفسية إلى مَن أصبّ له الحليب والشاي في الصباح؟ وأنني في حاجة إلى مَن أعود إليه في غرفة في فندق
أن تكون معي.. أن يكون أحد أفراد عائلتي معي.. أن يكون أحد من أصدقائي القدامى معي.. هو الدليل الأخير والوحيد على أنني موجود. ماذا دهاني؟ إلى هذا الحدّ تحتاج القربى والصداقة إلى تاريخ وأمهات وسجون قديمة؟ إلى جذور وذكريات؟ (18)
أنقذني يا عزيزي سميح من سطوة هذا الحنين. أنقذني من شماتة هذا المطار الذي يوصلكم إلى بيوت من حجر، ويوصلني إلى بيت من هواء!.”(19)
البَوح بالندم واظهار الرغبة بالعودة للوطن
وفي رسالة أخرى أرسلها إلى سميح القاسم من باريس يوم (19.5.1986) يختتمها بهذه الكلمات الحارقة:
“قريبا؟ ست عشرة سنة! ست عشرة سنة كافية لتقبل بنيلوب وُدّ خطّابها وتلعن بحر إيجة. ست عشرة سنة كافية لأن تتحوّل الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفّاثة. ست عشرة سنة تكفي لأصرخ: بدّي أعود. بدّي أعود. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النصر أو القبر.
ولكن، أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أينَ قبري؟”. (20)
هذا الحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء الذي تفجّر داخل محمود درويش وبرز بتكراره المرات العديدة في كتاب “في حضرة الغياب” للسؤال الذي أثار الكثير من الأسئلة “لماذا نزلت عن الكرمل؟” تجسّد في عنفوانه وصراحته وصدقه في كلمات محمود درويش:
أحبّ البلاد التي ساحبْ
أحبّ النساءَ اللواتي أحبْ
ولكنّ غصنا من السّرو في الكرمل الملتهب
يُعادلُ كلّ خصور النساء
وكلّ العواصم.
أحب البحار التي سأحبّ
أحبّ الحقولَ التي سأحبّ
ولكنّ قطرةَ ماء بمنقار قُبّرة في حجارة حيفا
تُعادل كل البحار
وتغسلني من ذنوبي التي سوف أرتكبُ
أدخلوني إلى الجنّة الضائعة
سأطلق صرخةَ ناظم حكمت:
آه.. يا وطني! (21)
ويطرح نفس الموقف الحاد في كتاب “في حضرة الغياب”: فماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلّم المشيَ على طرق لا أعرفها. (22) وعلى الطريق الساحليّ تساءلتُ: ماذا لو بقيتُ في حيفا؟ ماذا لو بقيتُ في أيّ مكان؟ ماذا لو كنتُ؟ ماذا لو لم أكن. تتحاشى الوصول إلى الخلاصة. “(23)
كان يجد نفسه في مواجهة حادة ما بين الحاضر الذي يعيشه والماضي الذي كان، فيختلط الواحد بالثاني، وتتبدّل المواقع والرؤى، لكن الأمل بالمستقبل يكون الأقوى، فتكون نبرته القوية الواثقة ببناء عالم فيه من سحر الماضي والتعويض عن الحاضر.
يوميات الحزن العادي وانشطار الذات
كانت “يوميات الحزن العادي” عام 1973 هي الكاشفة لهذا الانشطار الذاتي داخل محمود درويش. واستمر في رعايته وتشذيبه وتطويره وتجميله حتى كان “في حضرة الغياب” على أكمل صورة أدبيّة نصيّة “لا هي شعر وإن كان فيها من سحره الكثير، ولا هي نثر وإن كان فيها من حكمته وإيقاعيته ما لا يُحصى”(24).
فمحمود درويش قضى حياته يعيش ما بين الماضي البعيد “الذي يرى فيه الفردوس المفقود تارة والجحيم الدائم تارة أخرى وبين الحاضر الذي يُمثّل له الهاوية وانزلاق مستمر في المجهول”(25)
هكذا قضى حياته يتمزّق بين نقيضين:
الماضي الذي يشدّه إلى الوراء والحاضر الذي يأخذه إلى المجهول.
وإذا ما أمل بالمستقبل الآتي تَمثل له منطقة يصعب عليه ترسّم معالمَها.
يأخذنا محمود درويش في شطحات وجدانية ذهنية تصف الفوضى النفسية التي تعتريه، فتتداخل الهموم الذاتية بالعامة، ومشاكل العالم الكبير بقضايا الانسان العادي البسيط، والموت بالحياة. وهو يعترف بقوله: “وأهذي وأعرف أنني أهذي، ففي الهذيان وعي المريض برؤياه”(26)
وكأننا بمحمود وهو يستعيد الماضي يريد أن يكتبه من جديد، ليس ليطلع عليه الناس، وإنما يكتبه لنفسه، لربما كان بإمكانه أن يعيد بناء هذا الماضي من جديد، وكما يريده هو.
ساعات التوحد مع الذات كثيرة في حياة محمود درويش، وزادت مع التّقَلبات المتتالية التي لاحقت الشعب الفلسطيني حيثما تَواجَد. وكانت أحداث لبنان عام 1982 واضطرار الفلسطينيين على الرحيل فوق السفن اليونانية لتُلقي بهم على شواطىء المتوسط، ومجازر صبرا وشاتيلا ونهر البارد الأكثر تأثيرا على حياة محمود وذاتيته العميقة، وبرزت بكل حدّتها ودراميتها وشفافيتها في قصيدته الملحمية “مديح الظل العالي”.
خيبات الأمل المتتالية
وكان التدهور الصحي ومواجهة الموت أكثر من مرّة، وإدراك أن العمر يمضي ولا أمل في تحقيق ما خرج ليُحققه. وكانت النكسة الأقسى في اتفاقيات أوسلو. “هل انتهت الرحلة أم بدأت؟ هل اقترب هو من المكان أم افترق المكان عن صورته في المخيّلة؟”(27) ولم يُصَدّق الذي يراه وهو يتسمّر أمام التلفزيون “تسمرت أمام التلفزيون، واتخذت هيئة المحايد في حضرة الحيرة التي أقامت حاجزا بين العقل والقلب. العقل يقول: إنها مسرحية فاشلة باطلة. والقلب يسأل: كيف أنجو من سحر الإخراج؟”(28) ويسمع ولا يفهم ما تلتقط أذناه “لكن اللغة التي تسمعها تعيد قلبك إلى صوابه: لا، ليست هذه لغتي. فأين بلاغة الضحية التي تسترجع ذاكرة عذابها الطويل، أمام شقاء اللحظة التي ينظر فيها العدوّ في عين العدوّ ويشدّ على يده بإلحاح؟ أين أصوات القتلى السابقين والجدد الذين يُطالبون باعتذار لا من القاتل فحسب، بل من التاريخ؟ أينَ حيرة المعنى في لقاء الضدّ بالضد؟ واين الصرخة الملازمة لعمَلية جراحيّة يُبتَر فيها الماضي عن الحاضر في مغامرة السير إلى غَد ملتبس.. وأين لغتي؟.”(28)
وصدق حَدسُه عندما قال في قصيدته “مديح الظل العالي” :”ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة””(29)(حصار لمدائح البحر. منشورات الأسوار عكا- عربسك. ص182) فقد تصاغرت الدولة التي حلم بها لتنحصر في كنتونات متقطعة الأوصال تحيط بها حراب جند الاحتلال، ولا عبور من كنتون لآخر إلاّ بتصريح من الحاكم الغريب. وأدرك أنّ العمر ضاع هباء وأنّ الأمل تقلص وتذاوب.
سهام الاتّهامات المسمومة
وطاردته الأسئلة المتهمة أينما توجّه بسهامها المسمومة: ماذا ستكتب من دون منفى؟ وماذا ستكتب من دون احتلال؟ ويصرخ بحدّة:”لماذا لا تُوَجّه مثل هذه الأسئلة إلى شعراء شعوب أخرى؟ ألئنّ شرط الإبداع الفلسطيني هو العبودية، أم لأنّ الحرية لا تليق بإيقاعاتنا؟ وما معنى أنْ يكون الفلسطيني شاعرا، وما معنى أن يكون الشاعر فلسطينيّا؟ الأول: أن يكون نتاجا لتاريخ، موجوداً باللغة. والثاني: أن يكون ضحية لتاريخ، منتصرا باللغة. لكن الأول والثاني واحد لا ينقسم ولا يلتئم في آن واحد.”(30)
المجيء إلى غزة بمشاعر الخجل
وجاء إلى غزة تحاشيا لكثرة السّهام المسمومة المتّهمة، وتمنى لو كان معين بسيسو ابن غزة في استقباله، ويصف دخوله في حواره مع نفسه “في الظلام دخلنا، أو تسللنا إلى غزة. تركتك تمشي أمامي، وحملتُ عنك خيالك. فلستَ بقادر على صيانته من الوقوع على صلابة الواقع. ورأيتك تخفي وجهك عن إلحاح الكاميرت المنصوبة لالتقاط نشوة العائد، ولتصوير الكلمات المُعدّة لهجاء المَنفى. وتسير في أزقّة غزة خجلا من كل شيء: من ثيابك المكويّة، ومن جماليات الشعر، ومن تجريديّة الموسيقى، ومن جواز سفر يُتيح لك إمكانيّة السفر إلى العالم. يُصيبك وجع في الوعي. غزة المتعالية على مخيماتها وعلى اللاجئين، المتوجّسة من العائدين، فلا تعرف من أية غزة أنت. وتقول: أتيتُ، ولكنني لم أصلْ، وجئتُ، ولكنني لم أعد”(31)
وفي الطريق إلى بيت الأهل في الشمال يعذبه السؤال الصعب: “ماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلّم المشيَ على طُرق لا أعرفها.”(32) ويتقرفص داخل نفسه في حالة من اللاراحة العَبثيّة “تخاف على الحاضر من سطوة الماضي، وتخاف على الماضي من عبثيّة الحاضر، فلا تعرف أين تقف من هذا المفترق. هل أنتَ ما كنتَ أم أنتَ ما تكون الآن؟ وتخاف نسيان الغد في حمأة السؤال: في أيّ زمن أنا؟” (32).
افتقاد الصديق الصّدوق
لم يكن من السهل على محمود درويش أن يجد له الصديق الذي يبادله الأسرار والهموم الذاتية ومشاعر الفرح والحزن. حتى الزوجة لم تنجح في ذلك، ولهذا تهدّم عشّ الزوجية مرتين، وقد يأتي اليوم الذي ستبوح فيه زوجته الأولى رنا عصام القباني السورية بأسرار سنوات زواجهما. لقد وجد محمود هذا الصديق في سميح القاسم قبل مغادرته البلاد عام 1970. ووجده في معين بسيسو بعد الرحيل. وافتقده حتى آخر أيام حياته بعد موت معين بسيسو عام 1985. لقد آثر التوحّدَ مع ذاته على مرافقة الغير وهدر الساعات معهم، وكان يقضي أياما لا يغادر غرفته.
إيثار الوحدة ومحاورة الذات بلعبة الضمائر
ساعات الوحدة كانت تتركه يحاور نفسَه ويبادلها الكلام. أو يدخل حالة الانفصام ويتشظى إلى العديد من الشخصيات، فيُقيم الحوارات ما بينَه وبينَه ومع الآخر والمتَخَيّل والغائب والحاضر، يريد أن يبوح بما يعتمل ويتفجر في داخله:
في البيت أجلس، لا حزينا لا سعيداً
لا أنا، أو لا أحد.
* * *
وكأنني وحدي. أنا هو أو أنا الثاني
رآني واطمأنّ على نهاري وابتعد.
* * *
في البيت أجلس، لا سعيدا لا حزينا
بين بين. ولا أبالي إنْ علمت بأنّني
حقّاً أنا.. أو لا أحد. (33).
“الضمير الأكثر تفضيلا بالسرد هو ال “هو” أو ال “هي””(34). وأكثر من نص كامل بني على الحوار بهذين الضميرين:
هي: هل عرفتَ الحبّ يوما؟
هو: عندما يأتي الشتاء يمسّني
شغف بشيء غائب، أضفي عليه
الاسم، أيّ اسم، وأنسى..
هي: ما الذي تنساه؟ قل!
هو: رعشة الحمّى، وما أهذي به
تحت الشراشف حين أشهق: دثّريني
دثّريني!
هي: ليس حبّا ما تقول
هو: ليس حبّا ما أقول
هي: هل شعرتَ برغبة في أن تعيش
الموت في حضن امرأة؟ (35)
وتستمر الحوارية بالطريقة ذاتها، فيما تعتمد قصائد اخرى على أسلوب الراوي قالت/قال..
قال لها: ليتني كنتُ أصغر..
قالت له: سوف أكبر ليلا كرائحة
الياسمينة في الصيف
ثم أضافت: وأنت ستصغر حين
تنام، فكل النيام صغار. وأمّا أنا
فسأسهر حتى الصباح ليسودّ ما تحت
عينيّ. خيطان من تَعَب مُتقَن يكفيان
لأبدوَ أكبرَ. أعصرُ ليمونة فوق
بطني لأخفيَ طعمَ الحليب ورائحة القطن.
أفرك نهديّ بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ
أكثر
قال لها: ليس في القلب متّسع
للحديقة يا بنت.. لا وقت في جسدي
لغد.. فاكبري بهدوء وبطء
فقالت له: لا نصيحةَ في الحبّ. فخُذني
لأكبرَ! خُذني لتصغُرَ
قال لها: عندما تكبرين غدا ستقولين:
يا ليتني كنتُ أصغر
قالت له: شهوتي مثل فاكهة لا
تُؤَجّلُ.. لا وقتَ في جسدي لانتظار
غدي. (36)
وقد يليهما ال “أنا” ثم ال “أنت”. ومن النادر أن يكون السرد بأحد ضمائر الجمع”(37).
استعمال ضمير “الأنا” فيه الرغبة بالانطواء الذاتي والمصارحة التامة مع الذات والبوح الكامل عمّا يُثقل النفس من آلام وهموم، وما يشدّها ويدفعها من أحلام وآمال ورغبات. وفي الوقت ذاته في استعمال ضمير الأنا يجد إمكانية التبرير وخلق الأعذار لما قام به من أخطاء وطلب الشّفاعة والرحمة والبراءة.
وأنظر نحو نفسي في المرايا
هل أنا هو؟
وهل أقدّم جيّدا دوري من الفصل الأخير
وهل قرأت المسرحيّة قبل هذا العرض
أم فرضَت عليّ
وهل أنا مَن يؤدي الدور
أم أنّ الضحيّة
غيّرت أقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة
بعدما انحرف المؤلف عن سياق النص
وانصرف الممثل والشهود. (38)
بينما في استعمال ضمير “الهو” يجد الوسيلة للتهرّب من تحمّل أيّة مسؤولية حيث لا وجود للآخر. والمسؤولية كلها تُلقى على البعيد غير المُحدّد والمجهول الهويّة فيُعفي النفس من حمل تبَعة وزرها ونيل العقاب.
ويوفّر ضمير “النحن” الشعور بالطمأنينة والحماية الجماعيّة، وانك لست وحدك، فأنت وسط جماعة تحمل معك المسؤولية وتُشاطرك العبء في المواجهة وإيجاد الحلول لكل مشكلة.
استعمال أيّ من ضمائر السرد “يستلزم وجود ثنائيّة “الأنا والآخر”، وتكون الثنائيّة في حالة “الأنا” وأيضا الأنت” واضحة حيث كلّ ما يقع خارجها ينتمي إلى خانة الآخر”(39).
ازدياد خفقات القلب وانشطار الواحد في اثنين
مع مرور السنوات ازداد شعور محمود درويش أن حياته تقترب من النهاية لأن القلب الذي أجريت له العملية مرتين، لم يعد قادرا على الخفقان بانتظام، وإلحاح الأطباء وتحذيره من التعب وبذل الجهد، زاد عزوفه عن رفقة الآخرين وإيثاره الوحدة، والتحاور مع نفسه ومكاشفتها بكل ما يشعر به، والإكثار من استحضار شبح الموت ومحاورته بشتى الأساليب والكلام، وكان إذا رَكَن إلى النوم يخاف أن يغدرَ الموتُ به، ويحدث له ما حدث لمعين بسيسو. لهذا كان يترك مفتاح باب بيته بعيدا عن القفل حتى يكون بإمكان خادمة البيت أن تفتحه بمفتاحها عندما تحضر ظهر اليوم التالي لتنظيفه وترتيبه (1).
وتتجلى روعة المزج بين الضميرين أنا وأنت لتنهي حالة الانفصام بينهما في “الجدارية”:
لا أحد هنالك
في انتظاري. جئت قبل، وجئت
بعد، فلم أجد أحداً يُصدّقُ ما
أرى. أنا مَن رأى. وأنا البعيدُ
أنا البعيدُ.
مَن أنتَ، يا أنا؟ في الطريق
اثنان نحنُ، وفي القيامة واحد.
خُذني إلى ضوء التلاشي كي أرى
صَيرورتي في صورتي الأخرى. فمَن
سأكون بعدكَ، يا أنا؟ جسدي
ورائي أم أمامك؟ مَن أنا يا
أنتَ؟ كوّني كما كوّنتُك، ادّهنّي
بزيت اللوز، كلّلني بتاج الأرز.
واحملني من الوادي إلى أبديّة
بيضاءَ. علّمني الحياة على طريقتك،
اختبرني ذرّةً في العالم العُلويّ.
ساعدني على ضجر الخلود، وكُن
رحيما حين تجرحني وتبزغ من
شراييني الورود. (40) (جدارية –رياض الريس للكتب والنشر، بيروت –لندن 2000. ص 44-45)
أمّا في حالة السّرد بضمير “الهو” فتغيب ثنائية الأنا والآخر بشكل شبه كامل (41)
استعمال ضمير”الأنت” “يدخل في التباس بضمير الأنا وبالآخر. فحين يخاطب السارد الضمني الشخصية الأبرز في رواية ما جاعلا ذلك سبيلا إلى الإسراف في المكاشفة والبوح، يصير صعبا فصل أحدهما عن الآخر، فالسارد الأنا، القادر على النفاذ إلى أدقّ الدقائق وأكثرها غموضا واستغلاقا على الكشف في أعماق المخاطب لا يمكن أن يكون منعزلا خارج موضوع المكاشفة والبوح، أي لا يمكن إلاّ أن يكون قائما بسرد نفسه وأعماقه، جاعلا ضمير الأنت مجرّد مطيّة ليتّخذ البوح منحى أسلوبيّا مميّزا في عملية السرد”(42)
لكن تظل لضمير “الأنت” ميّزته وتفرّده حيث أنّه الأكثر حدّة ومُواجهة وصَراحة وقوّة في المكاشفة وعدم افساح المجال للتهرّب.
هذا التفرّد المتميّز لضمير “الأنت” هو الذي جعل محمود يجد فيه بغيته واختياره. فقد اكتشف بعد فوات الأوان، ورثاء الذات مع ضمير “الأنا”، والهروب مع الغيّاب في ضمير “الهو”. أنه لا وسيلة للمصارحة والمكاشفة والمواجهة غير ضمير المخاطب “أنت” فكان اختياره منذ “يوميات الحزن العادي” عام 1973. وكان ضميره الوحيد في كتاب سيرته الذاتية “في حضرة الغياب” عام 2006 وحتى لحظات عمره الأخيرة.
“سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلاّ في المطالع. وكما أوصيتَني، أقفُ الآن باسمك كي أشكرَ مُشيّعيكَ إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع، والانصراف إلى عشاء احتفاليّ يليق بذكراك.
فلتأذن لي بأنْ أراكَ، وقد خرجتَ منّي وخرجتُ منك، سالما كالنثر المُصفّى على حجر يخضرّ أو يصفرّ في غيابك. ولتأذن لي بأن ألمّك، واسمَكَ، كما يلمّ السابلةُ ما نسيَ قاطفو الزيتون من حبّات خبأها الحصى. ولنذهبَنّ معا أنا وأنتَ في مَسارَين:
أنتَ إلى حياة ثانية، وعدَتكَ بها اللغة، في قارىء قد ينجو من سقوط نَيزك على الأرض.
وأنا، إلى موعد أرجأتُه أكثرَ من مرّة، مع موت وَعَدْتُهُ ُ بكأس نبيذ أحمرَ في إحدى القصائد. فليس على الشاعر من حَرَج إنْ كذب. وهو لا يكذبُ إلاّ في الحبّ لأنّ أقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن.”(43).
الخلاصة
محمود درويش المبدع الذي شكّل ظاهرة فريدة في حركة الإبداع العربية في العصر الحديث، تمثّلها الكثيرون وحاولوا تقليدها واتّباعها، وشغل بعد كل إصدار جديد له وحتى قصيدة الناس في التفسير والتحليل والمناقشة. كان يشكو من انشغال النقاد والدارسين بنصّه واهمالهم لما يعتمل في داخله وكوّن شخصيته وبَلور همومَه وحرّك أحاسيسَه. محمود درويش الذي سُحر بالمنفى وسرعان ما شعر بخيبة الأمل وجد نفسه فجأة يعيش عالمين متباينين، وانشطر إلى اثنين وتشظى إلى كثيرين، وعاش حياته وحيدا لا يجد الصديق الذي يركن إليه ويبادله الهموم، والأحلام، والفرحة، والدمعة.
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: