د. سلوى بزاحي: عودة القديس فالنتين

د. سلوى بزاحي: عودة القديس فالنتين

 
 
د. سلوى بزاحي
أرخى الليل سدوله على مدينتي المنهكة فاستسلمت لسبات عميق بعد أن خارت قواها في ليلة 13 فبراير من شتاء سنة 2025، انهمر الثلج بهدوء كأنه نجمات نور تهبط على المدينة التي أدمى القدر فؤادها فانزوت كشجرة عارية ترقب الطرقات الصامتة فلا صوت الا وقع الثلج المتراكم على الأرصفة المطأطأة رؤوسها تحت أعمدة الكهرباء التي أحنت أحزان سنة 2024 ظهورها لكنها لا تزال تكابر واقفة ترفض الانكسار، وغرق العالم العجوز هو الاخر في سبات مطبق وصمت مهيب بعد أن أعيته الحروب الدامية والشعارات الخالية والقلوب الجافية.
أما أنا فقد تحصنت ببيتي في زمن أصبحت فيه البيوت قلاع نهرب اليها من نظرات الاخر المبغض، وجور القريب الغريب، وهجوم الأخ العدو، وقسوة الضعيف المستقوي، وفضول المرتاب في كل شيء ولأي شيء ، أجل لذت فرارا من الكل الداعي، و الجميع اللاهث الساعي، والعقل اللاواعي، والقلب  المتهالك المتداعي فاحتميت ببيتي أما روحي تلك المحاربة خائرة القوى فقد انكمشت على جروحها   أمام المدفأة المشتعلة مخفية أناتها،  فتراقصت حولها أضواء برتقالية شاردة  أبت الا  أن تغازل رائحة القهوة الساخنة الهامسة في الهواء.
التحفت بغطاء صوفي ثقيل وأحطت نفسي بوسائد ناعمة وغفوت على كنبتي بعد أن أنهكتني حروب أربعين سنة   تأرجحت فيها بين كر و فر، هجوم شرس ودفاع مستميت، ايمان راسخ وكفر ملحد، عقيدة ثابتة ووسواس قهري، أجل أنا المحاربة المستسلمة، أنا الشامخة المتخاذلة، أنا القوية المتهالكة، أنا الحنون القاسية أنا المتسامحة الحقودة، أنا الشيء ونقيضه، كان علي أن أغفو قليلا على كنبتي وفي يدي “عصا السنوار ” ألوح بها متحدية جنون الأربعين وظلم الأقربين واستغراب المتطفلين، واستهجان اللاعنين الناقمين.
أجل أيها القارئ العزيز أنا “سلوى” وأنا “رنا” اكتشفت وقد جاوزت الأربعين بأنني غضب “الفلور” الأكثر تفاعلا وهدوء “الهيليوم” الخامل، أنا قسوة “الكربون” المتصلب في شكل الألماس ولين “السيزيوم” الطري المقطع بالسكاكين، أنا غموض “الأزميوم” شديد الكثافة ووضوح “الهيدروجين” خفيف الوزن، أنا روح “التنغستن” في أعلى درجات انصهارها ورغبة الهيليوم المتجمدة تحت ضغط شديد، انا جموح اليورانيوم” المشع و أمل “الفرانسيوم” قصير العمر أنا تلك وهذي أنا.
 غفوت على كنبتي حيث يلتقي الظل بالنور علي أحظى بغفوة قصيرة تقيني كفر الانتحار أو شرف الجنون، حين أحسست بيد ناعمة تمسح على جبيني فزعت من غفوتي فرأيت شيخا ذا وجه طويل تخطه تجاعيد رسمها الزمن لتشهد على حكايات الماضي في دهاليز الذاكرة، حدق بي الرجل العجوز  بعينين واسعتين بلون العسل الداكن يشع منهما دفئ الحكمة، كان العجوز كثيف اللحية أبيضها تتخللها خيوط رمادية وقد زادته اللحية هيبة و وقارا.
وكم كانت دهشتي شديدة وأنا أنظر الى ثيابه فقد بدا كأسطورة هاربة من قصص التاريخ  كان يرتدي “توغا” رومانية بلون الكتان الطبيعي زخرفت بخيوط ذهبية دقيقة، وقد لف رقبته بوشاح قرمزي خفيف، و شد خصره بحزام جلدي بسيط يتدلى منه كيس صغير يحمل خطابات سرية، و انتعل “كاليغا” محبوكة بأشرطة جلدية تصل الى منتصف الساق، كان العجوز يحمل بيسراه صليبا صغيرا وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة رقيقة هدأت روعي في ثوان، وقبل أن أبادره متسائلة عن هويته عاجلني قائلا:
“سلام لكِ، يا صديقتي! ليكن السلام والحب معكِ” ،كان صوته عذبا عميقا كصوت خطيب روماني أو كاهن يلقى موعظة في معبد قديم، فانسابت كلماته الى قلبي في سلاسة فأطمأن قلبي وسكنت جوارحي، استرسل العجوز قائلا “أنا الشهيد فالنتين أنا قديس العشاق عبرت الزمن لسبب أجهله جئتك من روما القديمة من القرن الثالث ميلادي لست أعلم لما لكنني أتيت وكفى، قومي أيتها الروح الهائمة فمن أعماق الصقيع يولد الدفء، وفي ظلمة الليل يولد النور، لا تخافي من الشتاء فهو وحده يمنح الأرض وعدا بالربيع، قومي أوقفي عويلك أما ان لهذا القلب أن يسعد بالحب أما ان لروحك أن تسكن وتعمر بالأنوار وتنعم بالسعادة”.
اه أيها القديس فالنتين انى لقلبي أن يسعد بالحب وكيف لروحي أن تسكن وأنا محاطة بالكره من كل جانب عن أي حب تتحدث ألا ترى الموت في كل مكان في أوكرانيا وغزة وليبيا والعراق واليمن وسوريا ولبنان،  انصت جيدا ألا تسمع بكاء الأطفال ونياح العجائز ، افتح عينيك وأنظر الى الأشلاء المتناثرة في كل مكان، عن أي حب تتحدث يا سيدي استوطن الحقد في القلوب البركانية فتحجرت وفاضت مكنوناتها على الأعين فغدت نظراتها ثابتة باردة حادة كشفرة السكين، حدق في بابئ العيون المتسعة بعمق وستدرك بلا ريب أن عيوننا أصبحت تمتص الضوء بدل أن تعكسه، أنظر الى حركاتها السريعة المراوغة المتفادية لكل اتصال بشري  المتشبثة كغريق بشاشات الهواتف النقالة وأجهزة الكمبيوتر ،هل ترى تلك الجفون المشدودة التي تحبس حقدها وحسدها خشية اكتشاف أمرها، اه ثم اه  أيها الشهيد في سبيل الحب استوطن في القلوب كره الاخر لاختلاف دينه، أو لونه ،أو جنسه، أو لسانه، أو مذهبه، لا بل غزى الكره قلوب أصحاب الدين الواحد والوطن الواحد بل الأم الواحدة فعن أي حب تحدثني أيها القديس.
 لقد تعبت من الهروب حتى كادت أنفاسي تنقطع دعني أنزوي في مخبئي حتى ألقى منيتي، دعني فذاكرتي تنتفض كطير ذبيح من صور القتلى والأمهات الثكلى، ارحل ودعني في عزلتي فصور الأطفال الباكين حولي تقتلني تلك اليد الصغيرة التي التقطتها وتحسستها في ظلمة الليل فلم أتعرف على هويتها الا عندما لمست تلك الأنامل الصغيرة الملطخة بالدم، ارأف بحالي يا قديس العشاق فقد شارفت على الجنون ذاك الطنين المدوي في أذني صوت المدافع والقنابل وصراخ الأطفال، بكاء الأمهات وأنين السنوات المقبلة والمولية في حزن وانكسار، دعني في منفاي الاختياري، غادر  وخذ معك كتبي وهاتفي وتلفازي ومذياعي خذ معك تلك السكاكين المسنونة، المتراقصة فوق أعناقنا كل يوم، اكسر تلك الأقلام التي تقطر بالحبر الأسود فتروي عطشها بدمائنا، أنا أتوسل اليك في ضراعة لتخرس  نشرات الأخبار لقد سألتها قائلة:
كفى بربكِ، ألستِ تستحين؟
بأخبارٍ تهزُّ القلب، تُدمي العالمين
كفى بربكِ، لا تزيدي أيَّ حرف
يا نشرةَ الأخبارِ، بتِّ تذبَحين
تنزفين الحزنَ من أفواهِ ناسٍ
قد سَئِمنا من نحيبِ التائهين
كلَّ يومٍ تنثرينَ لنا خرابًا
كالسّمِّ يسري في دمانا أجمعين
فأبت علي تمنعا وتلونت مثل الحيايا
تنفث سم الصنانية  اللعينه
قالت بصوت واثق مستهزئ
تراجعي أيتها البلهاء لا تتدمري
لن تحصدي من زرع شوكك غير دمع ودم
طرح الحصاد مما عشت تزرعين

أتوسل اليك يا شهيد الحب أن توقف نعيق النسور   المحلقة في سماء أفكارنا، ولا ترضى إلا بنهش قلوبنا بخبر الموت، والخراب، والدمار ، والنفي، فتغرس مخالبها في أرواحنا فلا يطلع علينا صبح الا ونحن أشلاء من خوف وحزن وترقب، أسكن موج البحر الهائج، الذي لم يمنحنا لحظة سكون منذ سنوات، بل يغمرنا بطوفان من صرخات المذبوحين، وأنين المكلومين فلا نكاد نرفع رؤوسنا بحثا عن شمس الرجاء، حتى يغمرنا سيل الحزن من جديد.
أكاد أجن يا سيدي   فعبثا أحاول سد اذني غير أنني لا أزال أسمع نعيق الغربان المحلقة فوق أطلال الحياة، تبشرنا كل يوم بجنازة جديدة، تحصي علينا أنفاسنا، تعدّ موتانا واحدًا تلو الآخر، حتى ننسى أننا ما زلنا أحياء ، آه لو كان للصمت جناح من نور لفرشنا به آذاننا فلا يطالها صراخ المدافع ولا عواء الكراهية، لو كان للصمت ثوب من حرير، لضمّدنا به جراح أرواحنا، فلا تنزف مع كل خبرٍ مشؤوم. لكننا في زمنٍ تصرخ فيه الريح بأصوات اليتامى، ويهطل فيه المطر من عيون الأمهات الثكالى. فبأي شيءٍ نسدّ آذاننا؟
ربما نحتاج إلى سدادات من أجنحة الفجر، حيث لا صوت إلا تغريد الأمل. أو نغمس آذاننا في نهر الذكريات القديمة، حين كان الكلام زهورا لا أشواكا أو ربما نحتاج إلى أن نصير مثل الجبال يسمعها الرعد لكنها لا تردد غير الصدى، عبثا أحاول سد اذني عن عويل النساء وصراخ الأطفال وأنين المكلومين، ليس لي في منفاي زاد غير  ذكريات هاربة من الماضي صورة والدي مع قهوة الصباح، صوت أمي وهي تداعب شعري صباحا قائلة استيقظي يا أميرتي، ضحكات أخوتي، نظرة   الفخر في عيون معلمي، تسابقي مع زملائي في المدرسة، طقوس السعادة في حمام جدتي، جمعتنا حول طاولة رمضان، رائحة الملابس الجديدة والأدوات المدرسية عند كل دخول مدرسي، رائحة كعك العيد التي تداعب أنوف الجموع المنتظرة أمام مخبزة  عمي “لفطايري” ، أجل فلولا فضل نور الذكريات المتسللة الى ظلام روحي لكنت الان ذكرا بعد أثر  فعن أي حب تتحدث يا سيدي.
أنظر حولك كل شيء تغير لا الحب مازال حبا فقد طغت المادة على مشاعرنا أفراح تقام في أغلى القاعات، وهدايا بالملايين، ألم تسمع عن رجل اشترى نجمة لخطيبته الكل يتظاهر والكل يساوم حتى يقال فعل وامتلك وتفوق، الجميع يتسابق من أجل لقب التفاهة، أين المشاعر الصادقة والاحترام المتبادل، أين الحب العذري وباقات الورود أين دواوين  الشعر  وقصائد الغزل أين وقع الكلمة على القلوب وسحر النغمة على المشاعر حب زماننا ليس الحب الذي فديته بروحك أيها القديس.
الكل يركض لاهثا خلف لقمة العيش حدق في وجوه الناس صباحا في محطات القطار ،أنظر الى وجوه المارة المستعجلين للحاق بحافلة، لن تجد وجها واحدا مبتسما يا سيدي، تلتحف الوجوه بسواد دامس في ميترو الأنفاق أقسم لك بأن وجوههم أشد سواد من ظلمة النفق ذاته، وجوه عابسة ومشاعر متحجرة أتعلم أنني سافرت منذ ما يقرب ستة أشهر الى دولة أوروبية وعندما وصلت الى محطة الميترو  ليلا شعرت بذعر شديد كانت المحطة مكتظة بالمسافرين الكل يركض جارا حقيبته دون أن يلتفت الى غيره، الكل واقف ينتظر دوره أمام الات الكترونية حاملين بطاقات الكترونية ،لقد هلعت يا سيدي أحسست بأنني سافرت عبر الزمن ووصلت الى عام 2035 بدا لي أن الناس يشبهون روبوتات الية مبرمجة سلفا، الكل منطلق لوجهة مسطرة فلا نظرة ولا تحية ولا وصال.
 ولسنا بحال أحسن منهم اخرج الى شوارع مدننا  وحدق في وجوه المارة العابسين الذين يعتلي الحزن وجوههم فرغم بدائية العيش مقارنة بالدول الأوروبية، الا أننا أضعنا نحن الاخرين لذة العيش وفقدنا شغف الحياة فلا جمعات ولا ضحكات ولا أحجيات، حتى التحية التي كنا نلقيها صدقة مشفوعة بابتسامة مشرقة ضاعت في زحمة حياتنا، أجل بالأمس كنا أكثر الأمم تفننا في القاء تحية الصباح، بالأمس أبدع أجدادنا في القاء تحية الصباح صباح الخير، صباح الفل، صباح الورد، صباحك سكر، صباح العسل، صباحك مسك وعنبر، نهارك زين، أسعد الله صباحك، يسعدلي ها الصباح، يا حلو صبح، واليوم أقبلت علينا سنوات عجاف أكلن حلو السنوات السمان فشحت قلوبنا وأجحفت ألسنتنا، نركض دون توقف وقد تقطعت أنفاسنا في سباق لم نختر أبدا المشاركة فيه، تضغط الحياة قليلا فنزيد سرعتنا دون أن تلوح نقطة الوصول في الأفق، ورغم شدة تعبنا وانكسار أرواحنا لعدم وجود المشجعين المصفقين، تجدنا نركض دون شغف أو إرادة عزاؤنا في ذلك أننا لم نمنح  خيارا اخر وأن تلك السبيل الوحيدة للبقاء، نحن قطيع  الأغنام المساق الى المذبح من غبر حول ولا قوة، نجن الجاني والمجني عليه فإلى أين مالنا يا شهيد الحب وقديس العاشقين.
أما أولادنا فلا شيء يكسر خاطري غير أولادنا لقد حرموا متعة اللعب ولذة الطفولة فلا دمى ولا ألعاب ولا ضحكات، طفولة مسروقة وبراءة مستهدفة  كيف لا وقد نثرناهم على الزمن وأدرنا الرحى، أطفالنا دمى مكبلة بأوامر ونواهي، أكبادنا يرزحون يوميا تحت وطأة الدوام المدرسي واجبات ومشاريع لامتناهية وحقائب قد ضجت بكتب لا تفتح، ومناهج عاقرة عقيمة لم تخلف غير نماذج مشوهة لحقيقة مرة، أقسم أنك ستتمنى الموت مليون مرة لو علمت حال أبنائنا، أتعلم أننا لا نعرف أبنائنا انهم يعودون في نهاية اليوم بظهور منحنية وقلوب مكسورة يخفون شظايا زجاجها حتى لا نعنفهم ولا ننعتهم بالفشلة المقصرين، أولادنا يموتون مليون مرة في اليوم وقد كرهوا المدارس وفقدوا رغبة التعلم وسلبوا روح المغامرة وشغف الفضول فلا هم أطفال ولا هم كبار ،يعودون مع نهاية كل يوم الى بيوت كئيبة فيها كل شيء وليس فيها أي شيء، فيها أكلات طيبة وملابس فاخرة وشاشات ذكية، وليس فيها أي شيء فلا أم حاضنة ولا أب رؤوف نستقبلهم بالسؤال ونبادرهم بالأوامر  لأننا نحن أيضا ضحايا سباق البقاء للأقوى، وقد عدنا الى بيوتنا أجسادا هامدة لا روح فيها فنراهم عبئا ثقيلا لا هدايا ربانية ثمينة، أولادنا ضحايا غياب الحضن الدافئ والعبوس القاتل وهم بلا  ريب شهداء عدم التقدير  والأوامر العقيمة التي نختبأ خلفها لإخفاء اخفاقنا ولملمة كسرتنا، أكبادنا شهداء عدم التعبير عن الحب يا سيدي، قلت ذلك وهويت على صدر القديس الشهيد منتحبة فطال نحيبي وطال صمته .
نظر الي الشهيد القديس نظرة امتزجت فيها الحكمة العميقة والشفقة النبيلة، كما لو أنه يرى العالم من نافذة الروح لا من شقوق الأرض ابتسم لي بحزن ثم قال بصوت يشبه النور المتكسر على الماء:
يا صديقتي، ما الحب إلا جذوة لا تطفئها ريح الحرب، ولا يدركها يأس العابرين في ظلمة الأيام، أتيتك لا لأردك إلى ماض مضى بل لأذكّرك أن القلب وإن أرهقه الألم يبقى نافذة تطل على فجر لم يولد بعد، أما ترين أن في كل موت ميلادا، وفي كل كره اشتياقا دفينا للحب؟ ثم مدّ يده نحوي، فكأنها امتدت إلى أعماق قلبي واسترسل قائلا: العزلة ليست الملجأ، بل القيد الذي يصنعه الخائفون. اخرجي إلى الناس، وامنحي من قلبك ولو بصيصًا، فالحب لا يطفأ بالخذلان، بل يضيء حين يوهب، وإن أنكرت الأرض الحب، فلأن قلوب أهلها لم تعد تذكره فكوني أنت الذكرى في النسيان، والضياء في العتمة، ودعي روحك تسير بين المكلومين، فتكون بلسما شافيا.
كان القديس ينظر إليّ بعينين يشع منهما نور بعيد، كأنهما تحملان سرّ الأزمنة كلها لم ينكر كلماتي، ولم يعارض مرارة حديثي، بل ابتسم كما تبتسم الورود في مواسم الجفاف، وقال : يا بنيتي، أتيت إليك لا لأعطيك حبا لم تعرفيه، بل لأذكّرك بالحب الذي يسكن فيك منذ كينونتك الأولى ، ذاك الذي نسيته بين جراحك وأنّات أيامك. تقولين لي إن العالم امتلأ بالحروب والموت والكره، فهل نسيت أن العالم لم يكن يوما إلا مرآة تعكس ما في قلوب البشر؟ أتراه صار مظلما؟ أم أن العيون التي تنظر إليه قد غشاها رماد اليأس؟
ثم اقترب مني، حتى شعرت كأن صوته ينساب في دمي، وقال: يا بنيتيّ، الحبّ ليس نجما يُخمده غبار المعارك، وليس زهرا يذبل في مواسم القحط، بل هو النهر الذي يجري في أعماقك وإن جفّت الأرض من حولك. الحروب قامت منذ فجر الخليقة، والكره عشّش في قلوب كثيرة، ولكن رغم ذلك، لم يتوقف طفل عن الضحك، ولا أم عن احتضان وليدها، ولا عاشق عن انتظار من يحب. أما ترين أن الحبّ، مهما اشتدّ عليه الليل، لا يزال يضيء القلوب التي تؤمن به؟
ثم رفع يده إلى السماء، كأنّه يقطف ضوء القمر، وقال: لا تجعلي الحزن بيتا لك، بل اجعليه طريقا تعبرينه. لا تقولي إن الحب مات، بل قولي إن القلوب تعبت من حمله. وإن كنت قد عرفت الألم، فذلك لأنك عرفت الحبّ من قبل، وهل يُجرح الإنسان إلا في موضع كان فيه قلبه نابضا بالحياة؟
ساد الصمت لحظة، كأن العالم توقف ليستمع فيها إليه، قبل أن يهمس لي بصوت يشبه نسيم الفجر  “انهضي، واخرجي من عزلتك كما تخرج الوردة من رحم الأرض القاحلة. لا تحملي سيفا في وجه الظلام، بل كوني أنت النور. ازرعي الحبّ حيث لا يتوقعه أحد، فإن فعلت، رأيت الأرض تورق في عز برد الشتاء. وإذا خانك من تحبين، فسامحي، لأن الحبّ الذي يسامح لا يموت، بل يصير أغنيةً ترددها الحياة ذات يوم لمن بعدك. قال ذلك واستدار   راحلا لكنني ناديته متوسلة   فالتفت مبتسمًا، وقال لي: أنا لا أزور من يفقد الحبّ، بل من يبحث عنه في عتمة الأيام. وإن كنت قد رأيتني اليوم، فذلك لأنك، رغم كل شيء، لا تزالين تؤمنين… ولو قليلا.” رحل و تركني مع صمتي، حيث لا جواب إلا في أعماقي، فصارت كل كلمة مرآةً رأيت فيها نفسي من جديد…أعاد الي الزائر الغريب روحي فلملمت شتاتي وحملت حقائبي وحلقت بأجنحة لم تقصقصها أهوال الزمن، أجل طرت بحب مع الحب الى الحب فسلام على روحك الطيبة أيها القديس الشهيد .
فندق الريم الجميل-عنابة- الجزائر- 14 فبراير 2025-

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close