تخضع سياسات الاستثمار في قطاع الدفاع بأوروبا لإعادة تقييم شاملة، مع تصاعد الضغوط من العملاء وبعض السياسيين لتخفيف القيود والمساهمة في تمويل جهود القارة لتعزيز قدراتها العسكرية. وفي ظل قواعد الاتحاد الأوروبي، تلتزم العديد من الصناديق المصنَّفة على أنها مستدامة بضمان «عدم إحداث ضرر جسيم» في استثماراتها، مما أدى إلى استبعاد قطاع الدفاع بالكامل، حتى الشركات ذات الأنشطة المزدوجة، مثل «رولز رويس» و«إيرباص»، التي تمتلك أقساماً كبيرة للطيران المدني.
لكن مع مساعي الاتحاد الأوروبي لجذب استثمارات تصل إلى 800 مليار يورو (870 مليار دولار) لدعم قطاع الدفاع، في أعقاب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي دعت أوروبا لتحمل مسؤولية أكبر عن أمنها، أصبح من الواضح أن تجاهل هذا القطاع لم يعد خياراً مطروحاً. وفي هذا السياق، تستعد شركة «ليغال آند جنرال»، أكبر مستثمر في بريطانيا، لزيادة استثماراتها الدفاعية، معتبرة أن القطاع أصبح «أكثر جاذبية»، وسط تصاعد التوترات الجيوسياسية، وفقاً لما نقلته «رويترز».
تحول في استراتيجيات مديري الأصول
بدأت بعض أكبر مجموعات صناديق الاستثمار الأوروبية بإعادة تقييم سياساتها على مستوى مجالس الإدارة، وفقاً لمصادر مطلعة، إلا أن إدخال تعديلات على سياسات الاستدامة لاستيعاب قطاع الدفاع لا يزال أمراً معقداً بسبب طبيعته المثيرة للجدل.
وأكدت شركة «يو بي إس» لإدارة الأصول السويسرية أنها تراجع استثناءات قطاع الدفاع في جميع صناديقها، في حين أفادت شركة «ميرسر» الاستشارية، الرائدة في إدارة صناديق التقاعد، بأن المستثمرين يطالبون بشكل متزايد بإدراج شركات الدفاع ضمن محافظهم، حتى في الصناديق التي تستهدف الاستدامة.
وقد انعكس هذا التوجه في أداء السوق؛ حيث أدى ارتفاع الإنفاق العسكري في الاتحاد الأوروبي إلى تسجيل أسهم شركات الطيران والدفاع الأوروبية، مثل «راينميتال» الألمانية و«ليوناردو» الإيطالية، مستويات قياسية، مما دفع بعض المستثمرين إلى الشعور بالندم على الفرص الضائعة نتيجة استبعاد هذا القطاع سابقاً.
وقال ريتش نوزوم، كبير استراتيجيي الاستثمار العالميين في «ميرسر»، التي تدير أصولاً بقيمة 17.5 تريليون دولار: «يعتقد بعض عملائنا أن من الضروري لأوروبا أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، وبالتالي يرغبون في توجيه استثماراتهم نحو هذا القطاع».
إعادة تشكيل معايير الاستثمار في الدفاع
رغم استمرار الحظر على الاستثمار في الأسلحة المثيرة للجدل، مثل الذخائر العنقودية والأسلحة البيولوجية، استناداً إلى المعاهدات الدولية، فإن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لا يمنعان الاستثمار في معظم شركات الدفاع الأخرى. ومع ذلك، فإن المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة شكلت عامل ردع رئيسياً لكبار مديري الأصول، كما حدث مع قطاع التبغ.
وفي هذا السياق، صرح كارل هاغلوند، الرئيس التنفيذي لشركة «فيريتاس» الفنلندية للمعاشات التقاعدية ووزير الدفاع الفنلندي السابق: «لقد وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها من يستبعد الاستثمار في الدفاع هو من يجب عليه تقديم تبرير، وليس العكس».
وعند استطلاع آراء 10 من أبرز شركات إدارة الأصول في أوروبا، تبين أن «بنك يو بي إس» و«أليانز غلوبال إنفستورز» أكدا مراجعة استثناءاتهما في سياساتهما الاستثمارية، رغم أن «أليانز» أشارت إلى أن التوقيت كان مجرد مصادفة. من جانبه، أكد «بنك بي إن بي باريبا» الفرنسي استمراره في دعم استراتيجيات الاستثمار الدفاعي. أما «أموندي» و«شرودرز»، فقد أوضحا أن سياساتهما لم تشهد أي تغييرات. في المقابل، رفضت شركات «دي دبليو إس» و«إتش إس بي سي» و«إنسايت للاستثمار» التعليق على ما إذا كانت تراجع سياساتها الحالية.
من جهته، أشار هيرفي جيز، الرئيس العالمي للأصول المدرجة في شركة «ميروفا» التابعة لمجموعة «ناتيكسيس»، إلى أن تصاعد التهديدات الأمنية دفع شركته إلى إعادة النظر في موقفها الحذر تجاه الاستثمار في الدفاع. ومع ذلك، لفت إلى أن دعم شركات الأسلحة لا يخلو من تعقيدات، بسبب المخاوف المتعلقة بوصول بعض المعدات العسكرية إلى دول «مثيرة للجدل».
دعوات متزايدة لدعم الاستثمار الدفاعي
مع تنامي التهديدات الأمنية، ازداد الضغط السياسي لحث المستثمرين على دعم القطاع العسكري. ففي الأسبوع الماضي، حثّ سياسيون بريطانيون المستثمرين على تعزيز استثماراتهم الدفاعية، بينما طرحت فرنسا إمكانية رفع القيود المفروضة على الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) بشأن قروض الدفاع. من جهته، صرح رئيس البنك المركزي النرويجي بأن معايير الاستثمار الأخلاقي قد تحتاج إلى إعادة تقييم.
وفي هذا السياق، أوضحت سيوبان آرتشر، مديرة الإدارة العالمية في شركة «إل جي تي» لإدارة الثروات، أن العملاء بدأوا في طرح أسئلة حول قطاع الدفاع، لا سيما مع استبعاد شركات، مثل «رولز رويس»، تماماً من محافظهم الاستثمارية. وأضافت أن شركتها تدرس «من كثب» موقفها تجاه الاستثمار في هذا القطاع.
انقسامات حول مستقبل الاستثمار الدفاعي
لا يزال بعض مديري الأصول مترددين بشأن دمج الدفاع في استراتيجياتهم الاستثمارية. فوفقاً للويد ماكاليستر، رئيس الاستثمار المستدام في «كارمينياك»، فإن تحميل صناديق الاستدامة مسؤولية ضعف الاستثمار في قطاع الدفاع ليس دقيقاً؛ حيث تمتلك الصناديق التقليدية أصولاً أكبر بكثير، وهي قادرة على الاستثمار في هذا المجال.
وأضاف: «صناديق الاستدامة تستثمر حيث يكون التأثير الإيجابي أكثر وضوحاً من مجرد مستودع ممتلئ بالأسلحة».
بداية تحول في السياسات
مع ذلك، يتجه مستثمرون آخرون إلى استغلال الفرصة. فقد أطلقت «ويزدوم تري» مؤخراً أول صندوق أوروبي متداول في البورصة مخصص لقطاع الدفاع.
وتوقّع توم فايل جينسن، نائب مدير هيئة التأمين والمعاشات الدنماركية، أن تقوم مؤسسات التقاعد والمعاشات في بلاده برفع معظم الحظر المتبقي على الاستثمار في الدفاع.
وتشير بيانات «مورنينغ ستار» إلى أن مديري الأصول الأوروبيين رفعوا نسبة استثماراتهم في قطاعَي الطيران والدفاع إلى 1.1 في المائة من محافظهم بنهاية 2024، مقارنة بـ0.7 في المائة قبل عامين. كما زادت استثمارات صناديق الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية إلى 0.5 في المائة من 0.4 في المائة خلال العام الماضي.
ووفقاً لمحليلي باركليز، فإن انخفاض الوزن الاستثماري لقطاع الدفاع ضمن صناديق «إي إس جي» تراجع بشكل «ملحوظ» منذ العام الماضي.
واختتمت سونيا لاود، رئيسة قسم الاستثمار في «ليغال آند جنرال»، قائلة: «سنواصل تبني موقف أكثر إيجابية تجاه الاستثمار في الدفاع… وهو أمر لا مفر منه، في ظل الوضع الجيوسياسي الراهن».