محمد عزت علي الشريف: رَوعة بناء الصَرْح في نَصّ سورة الشَرْح

محمد عزت علي الشريف: رَوعة بناء الصَرْح في نَصّ سورة الشَرْح

 
 
محمد عزت علي الشريف
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ/ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ /وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً/ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ / وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ

إنّ دراستنا هذه تأتي من زاوية في السورة لم تأخذ حقها  في النَظَرِ من خلالها؛ من قِبَلِ كثيرٍمن الباحثين والدارسين للسورة الكريمة.
ونحن هنا إنما نتفق مع الكثيرين الذين يقولون بأن اليُسر الذي عَدّده الله وفصّله في السورةِ إنما جاء عَوْناً لرسوله الكريم محمد على العُسْرِ الذي سيُلاقيه في مهمة حمل الرسالة وتبليغها إلى الناس أجمعين.
إنّ التأسيس المتين لشرح سورة الشرح إنما يمر عبر:
شرح المعنى اللغوي لكلمة (الشرح).
المعنى الذي يخدم المقصد الأعظم لنص السورة من وجهة نظرنا
دعونا نبدأ بمثال توضيحي:
لو أخذنا بين أيدينا كتاباً من القَطع المتوسط
وكان ذا سُمْك (4سنتيم) مثلاً
وكنا في عصر الكتابة على ألواح الخشب فإننا قد نجد أنفسنا أمام كتاب من لوحين فقط من الخشب ويكون لدينا (4 أوجه للكتابة عليها).
 
فإذا ما وصلنا إلى عصر البردي فإنّ نفس الكتاب الذي بسُمك (4سنتيم)
سيحمل لنا (10 ألواح بـ 20 وجه للكتابة عليها).
فإذا كنا في عصر الورق الرقيق الذي نكتب عليه الآن؛ فإن دَفّتَي الكتاب يمكن أن تحتوي على (500 ورقة بـ 1000 صفحة).
وكلما رَقَّتْ صفحاتُ (شرائحُ) الكتاب كلما احتوى على صفحات أكثر ومن ثّمّ اتسع لعديد من جمل وكلمات وحروف أكثر؛ ومن ثمّ معانٍ أكثر .
ومن بعد طرح المثال السابق فإنه يَسْهُل علينا فَهْمُ
معنى “الشرح” في الآية الكريمة
نحن نتبنَّى المعنى الذي يقول بأن انشراح الصدر في السورة يأتي من خلال تَعَلُّم الرسول الكريم للقراءة والكتابة تعلُّماً عاجلا لم يعتمد على الأسباب المعتادة في التعلم ؛ بل اعتمد على رب الأسباب من خلال الوحي الأمين”.
 
كيف إذنْ لصدر الرجل الأُميّ أنْ يَسَعَ كل هذا الفيض من النورِ لو لم يُرقِّق الله صحائفه ويُنَقيها من كل دَرن، ويخفـِّفها من كل وزر؟.
 
إن القلب الذي تهيّأ لأن يحمل القرآن كله في زمن قياسي اختصره مشهد بداية نزول الوحي على محمد الذي لم يتعدّ ساعات أو دقائق ؛ لا شك أنه أكثر القلوب رقة وأعلاها شفافية.
 
عماد بناء السورة
وهو المعنى العام والمقصد الأعظم للآيات وهو هنا ” إن مع العسر يسرا” ذلك المحور الذي تدور حوله المعاني الفرعية للآيات، في تصاعد مستمر للمعنى العام؛ بما لا يخرج بالنص عن سياقه أو وحدته الموضوعية.
 
فالنص كما نرى من بدايته وحتى نهايته يحمل معنى ” التيسير مع التكليف”
بل لقد كان “اليُسر” مع ” العسر” في مضمون أول كلمة نزلت على محمد تكلفه بحمل الرسالة العسيرة ؛
إنها كلمة “اقرأ”.
إننا هنا يمكننا وبكل طمأنينة أن نكشف عن..
 سرّ كلمة “اقرأ”:
تلك الكلمة التي اجتمع فيها  “اليُسْر” مع “العسر”!.
فلقد جاءت “اقرأ”  تُنبئ بالعسر الذي ينتظر محمداً الرسولَ في تبليغ الرسالة العظيمة لأقوام أُميِّين لا عهد لهم بكتابةٍ أو قراءةٍ، ولا بمعرفةٍ حقيقيةٍ لمفهوم الإله الواحد الذي لا تحتاج عبادته لشفعاء أو شركاء.
 
هذه الكلمة “اقرأ” هي نفسها الكلمة التي جاءت “يُسْراً” وعوناً في ذات الوقت للرسول الأمي الذي علّمه الله من لَدُنه بسرّ كلمة “اقرأ” التي شرح الله بها – و لها – صدره.
فكانت – وبحقّ-  فتحاً لصحائف (شرائح) صدر الرسول المصطفى، شرائح تَسَع كلمات ربه إلى جميع خلقه. كلمات ربه التي وصفها سبحانه في كتابه قائلاً : “قُلْ لو كان البحرُ مِداداّ لكلمات ربي لَنَفِدَ البحرُ قبلَ أنْ تَنْفَدَ كلماتُ ربي”.
إنها وبحق جاءت بمثابة شعاع النور الأول لشمس العلم والحكمة والإيمان وكل مكونات “اليُسر” الذي جاء مع العُسر في التوّ واللحظة لا يتأخر حرفاً ولا يتقدّم .
إذن؛ فمحور النص ومقصده العام
هو: ( فإن مع العسر يسرا) (إن مع العسر يسرا)
فالآية ( فإن مع العسر يسرا) الأولى جاءت لِتجعلَ جميع الآيات قبلها؛ هي دليل عليها.
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
 
والآية (إن مع العسر يسرا) الثانية جاءت لتجعل الآيات بعدها حاملة معنى تكليفات ووصايا مترتبة على  آيةِ (معلومةِ) .إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا. كما نرى في الآيتين التاليتين:
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ
وَإِلَى رَبِّكَ فارغب.
وزيادةً في الإيضاح يمكننا صياغة الفقرة هكذا:
” حيث أننا يَسَّرنا لك الأمرَ؛ بِشَرْحِ الصَدْرِ، ووَضْعِ الوِزْرِ، ورَفُعِ الذِكْرِ، فإذا ما وجدت نفسك وقد فَرغت حقّاً من كل انشغالاتك من أجل حمل الرسالة، إذنْ فعليك استجماع القوى، واستفراغ الوسع، والتعب والنَصَب في حمل تلك الرسالة التي هيأناك لحملها، واتجه إلى ربك على اتساع شرائح صدرك وخُلقك واسأله سبحانه الأوامر والتكليفات، ومعها العون والتيسير والأجر والثواب ، فلا تَرْغَب عنه سبحانه أو تَحِدْ إلى جهةٍ غير جِهَتِهِ.”
وثم نأتي إلى المفردات و نَسَق بناء الآيات في السورة:
اتسمت آيات سورة الشرح بالبلاغة والتكثيف والرمزية العالية
فلم تتعدّ أيّ آية من الآيات الأربع كلمات
وجاءت كل آية بمعنى تام في ذاتها، علاوة على ما أضافته إلى المعنى العام للمقطع الذي جاءت فيه، ومن ثم التحمت كل الآيات لتشكل المقصد العام للسورة .
 
وعلى صعيد المقاطع الصوتية ووَقْعِها في الأسماع:
فقد جاءت الحركات على الحروف في تنسيق بديع تستسيغه، وترتاح لوقعه الآذان؛ حيث لم تَزِدْ الحركات المتتالية عن ثلاث حركات يتبعها ساكن؛ وذلك في كل الكلمات والآيات لكل السورة على الإطلاق!.
 
وقد جاءت نهايات الآيات تعتمد نظاماً بديعاً في التقفية العالية الوقْع تماماً
بما لا يخفى حتى على أُذُنِ السامع غير المتحدث بالعربية:
(صَدْرَكَ ـ وِزْرَكَ ـ ظَهْرَكَ ـ ذِكْرَك)
(يُسْراً ـ عُسْراً)
(فانْصَبْ ـ فارْغَبْ)
ثم لِننظُر ما في النص من كَمّ الحركة والانتشار إلى الأعلى وإلى الأسفل وروعة استخدام المتقابلات في المعنى، والمتقارِبات في الحروف؛ كما في  مفردتي “رفعنا” و”وضعنا”. ومفردتي “العُسْر” و “يُسْرا”.
 
ثم لننظر إلى حالة الانشراح والاتساع والتي تتضمن معنى الامتداد والاحتواء
بل ولننظر إلى معنى الثبات في لفظة “فانصب” وإلى معنى العلُوِّ والسمو في لفظة “فارْغَب”.
إنها الحركة التي تشغَل المكان من الأرض إلى السماء!.
ولنتأمل كيف انجدلت المفردات الدالة على معاني “العُسْرِ واليُسْر”
و كيف يتصاعد المعنى في ثنائيات من المفردات والعبارات المتقابلة والمتناسقة في توازٍ مُوحٍٍ بديع:
(وضعنا ـ وزرك)/ (رفعنا ـ ذكرك).
(فإنَ مع العسر يسرا)/ (إنّ مع العسر يسرا).
فإذا (فرغت ـ فانصب).
 
 بل ونعود لنتأمل كيف كانت ثنائية السبب والنتيجة:
• فإن كان ” الوِزْر” يــؤدي إلــى ” نَقْضِ الظَهْر”
• فأنّ “شَرْحَ الصَدْرِ” يَؤولُ إلى “رَفْعِ الذِكْر”
ولأنه نَصٌّ ذو بناء دائريٍّ بديع
يرد المقطع فيه على المطلع من خلال ثنائية الآية (الأخيرة ) والآية (الأولى):
( إلى ربك فارغب) (ألم نشرح لك صدرك)
فإن المَعْقِد البليغ للآيتين يمكن قراءته أيضاً هكذا:
إلى ربك فارغب . ألم نشرح لك صدرك؟!
 
وإذا ما أكملنا السياق الدائري المعجز:
فلن نشعر أصلاًً من أين يبدأ النص الكريم وإلى أين ينتهي!؛ حتى أنه لَيمكننا – على سبيل المثال- أن نبدأ النص من منتصفه هكذا:
إنّ مع العسر يسرا
فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب.
وثم نُتْبعه مباشرة بالآيتين الأُوليين:
ألم نشرح لك صدرك
ووضعنا عنك وزرك؟!.
 
والمعجز والبليغ أن النص يظل في تصاعد مستمر باضطراد.
والمعاني تعلو وتتعمق ولا تخرج عن المعنى العام للنص بل تخدمه وتعززه؛ مهما تنوعت مفاهيمنا لمعنى كل آية على حدة، بل ومهما تعدّدَت مواضع البدايات.
 أمّا النهايات؛ فيمكننا ألا ننتهي إلى نهاية لو واصلنا القراءة للسورة مرة بعد مرة، فلن يُمكِن للسامع أن يُمَيِّز البداية من النهاية للنص البديع الذي جاءت دائريته وتكراره في تناسُب تام مع تعدد تأويلاتنا، وتَدَبُّراتنا العديدة لآياته .
 
بل يمكننا أن نرسم خطاً واحداً رأسياً عاماً للسورة ؛ نضع في أعلاه ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).
وفي نهايته فـ ( إلى ربك فارغب).
•••
ولو أخذنا المعقِد الأول للسورة
من البداية وحتى المنتصف هكذا ..
 
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.
فإننا نكون بصدد معنى تام قائم بذاته يُعَدّدُ الله فيه المنن والنعم على عبده ،ويَخلُص في النهاية إلى أنها دلائل قاطعة على أنّ مع العسر يسرا.
•••
كما يمكننا أن نأخذ المَعقِد الثاني من منتصف السورة حتى نهايتها هكذا:
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
هنا أيضاً يَتُمّ المعنى إذا استقل هذا المَعقِد من الآيات عن بقية السورة واعتبرناه وحدة واحدة، تَبْني أوامرَ وتكليفاتٍ على حقيقة أن التيسير مع التكليف.
 
بل وإذا أخذنا الآية الأولى والأخيرة في كل مَعْقِد فنكون بصدد معنى تام.
فمثلا في المعقد الأول سيكون هكذا:
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟!)
فالردّ الضمني المقدّر دائماً : بلى
فيستكمل النص القرآني:
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)
 
وكذا في المعقد الثاني سيكون كما هو
هكذا:
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
 
فإذا أعدنا لُحمة المَعْقِدَيْن بكل أشكالها كما كانت
فإننا نعود ونقف أمام نص واحد دائري ذي معنى عام تتمحور حوله كل الآيات.
 
سورة الشرح الكريمة وبحق
جاءت في أروع صورة وأمتَنَ بِناء، وكانت آياتها مكثفة وموجزة وعلى أبلغ ما يكون المعنى.
وقد اعتمدت بناءً دائرياً بديعاً موحيّاً ومعنى منتشراً وآياتٍ هن ـ وبحق ـ من جوامع الكَلِم .
 
• اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً.
**

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم:

close