بوابة مجهولة.. علماء يكتشفون مدخلاً جديداً نحو أسرار الكون المجهول

تفتح فكرة استكشاف أسرار الجسيمات عبر مصادم الهادرونات الكبير نافذة مثيرة على عالم فيزياء الجسيمات الغامض، حيث يسعى العلماء لاكتشاف القوانين الخفية التي تحكم الكون في أعماق أصغر من أي وقت مضى. هذا التحدي يمثل مفتاحًا لفهم المادة المظلمة وأسرار تكوين الوجود، مع احتمال فتح أبواب جديدة نحو عوالم لم تُرَ من قبل.

فرص الكشف عن الفيزياء الجديدة عبر مصادم الهادرونات الكبير والجسيمات الخفية

بدأ مصادم الهادرونات الكبير رحلته قبل خمسة عشر عامًا، محققًا انطلاقة قوية في تحليل تصادمات الجسيمات التي تصل إلى أعنف الفعاليات في عالم الفيزياء؛ حيث شكل هذا الجهاز الأكبر والأقوى مرحلة مفصلية في البحث عن جسيمات وأسئلة فيزيائية جديدة، منها سر غياب المادة المظلمة. عام 2012 شهد اكتشاف جسيم هيغز، الرابط الحيوي في النموذج القياسي الذي يفسر كتلة الجسيمات، مما رسخ مكانة هذا الإطار النظري؛ لكن الباب نحو فيزياء جديدة ما يزال مغلقًا، إذ قد تخفي الجسيمات الجديدة نفسها وراء ندرتها أو تداخلها في الحطام الناتج عن التصادمات. ومع ذلك، التحديثات المستقبلية لمصادم الهادرونات الكبير تعد بفتح آفاق أوسع، رغم احتمال احتياجنا لمصادم أعظم كليًا لا يزال قائمًا على الطاولة.

الباحث أندجي بوراس من جامعة ميونيخ التقنية يقود جهودًا مبتكرة لاستكشاف “الكون الزبتوني”، الذي يحتمل أن يحوي جسيمات ما وراء النموذج القياسي، تقع في نطاق أبعاد دون البنيوية تبلغ حوالي 10⁻٢١ متر؛ وهو عالم غامض بدأت خطواتنا الأولى في الاقتراب منه بالفعل من خلال هذه التقنيات المتقدمة.

النموذج القياسي وحدوده في تفسير المادة المظلمة والأسرار الكونية

يمثل النموذج القياسي الإطار الأكثر شمولًا لفهم الجسيمات الأولية وقوى الطبيعة، مع استثناء الجاذبية؛ وقد أثبت قدرته على التنبؤ الدقيق حتى في أصغر التفاصيل، وهذا ما يجعل إشكالاته أكثر إثارة للاهتمام. فالنموذج يعجز عن تفسير وجود المادة المظلمة، التي لا نراها لكنها تتحكم في بنية الكون عبر جاذبيتها، كما يظل بلا تفسير مقنع للأنماط المتكررة في أجيال الجسيمات الثلاثة، والسر الدفين وراء تزايد كتلتها بشكل غريب.

أبرز المشاكل تكمن في تناقض النموذج القياسي مع وجود الكون ذاته، حيث كان المفترض أن تتلاشى المادة مع مادتها المضادة في أعقاب الانفجار العظيم، وهو ما لم يحدث؛ وهذا يشير إلى وجود خلل عميق يتطلب بحثًا مستمرًا عن جسيمات وأطر نظرية تمتد أبعد من النموذج الحالي. لذلك، رغم تعثر مصادم الهادرونات الكبير في الكشف المباشر عن جسيمات جديدة، يتجه البحث نحو تقنيات “باب خلفي” تمكننا من عبور حدود رؤيتنا الحالية، مستفيدين من فهم معمق في كيفية تصادم الجسيمات وطاقاتها.

همسات الجسيمات وإشارات التحلل النادرة كمفتاح لفيزياء ما وراء النموذج القياسي

حتى لو كان جسيم جديد صغيرًا لا يستطيع مصادم الهادرونات الكبير رصده مباشرة، فإن التأثيرات التي يتركها عبر الحقول الكمومية ترتد على الجسيمات الأكبر التي نمتلك القدرة على ملاحظتها؛ وهذا يسمح لكشف آثاره بوسائل غير مباشرة عبر دراسة تحللات دقيقة لجسيمات نراقبها باستمرار. عادة ما يركز الباحثون على تحلل جسيمات ثقيلة إلى أخرى أخف وزنًا، حيث تحدث أوجه تحلل نادرة تُعد المفتاح لاكتشاف خلفيات جديدة في الفيزياء.

عمليات التحلل هذه معقدة، ومن الصعب حسابها بدقة بسبب تأثيرات الديناميكا اللونية الكمومية، التي تحكم ارتباط الكواركات والغلوونات في نواة الذرة. لكن انتخاب قنوات تحلل محددة بدقة يفتح نافذة نحو عالم الزبتون؛ حيث جمع بوراس وفريقه قائمة من “العظماء السبعة”، وهي سبعة تحللات نادرة لجسيمات تحتوي على كواركات غريبة، قد تكشف عن فيزياء جديدة خلال العقد الحالي، مع تواصل التجارب العالمية لرصدها.

على مستوى التجارب، تتبع فريق بوراس في تجربة “إل إتش سي بي” تصادمات الميزونات “بي”، التي تتحلل إلى جزيئات مثل الميونات، تحتوي على إشارات نادرة وقيمة تكشف عن احتمالات جديدة لا يخبرنا بها النموذج القياسي. وفي اليابان، تجربة “بيل 2” رصدت تحللًا مشابهًا لميزون “بي” ينتج جسيمات باسم الكاون والنيوترينوات، مع نتائج تشير إلى انحراف بسيط عن التوقعات، مع ضرورة المزيد من الدقة قبل التأكيد.

تجربة “إن إيه 62” في سيرن اكتشفت مؤخرًا أندر تحلل للجسيمات، بوقع أكبر من توقعات النموذج القياسي بنسبة 50%، ما يجعلها من أكثر الفرضيات إثارة الآن في فيزياء الجسيمات. الهدف هو توسيع نطاق هذه الدراسات في أعماق عالم الزبتون، عبر تطوير أدوات وأجهزة مستقبلية تجمع بيانات أكثر دقة وكمية أكبر، لمنح فرصة أكبر للكشف عن الجسيمات الغامضة.

التجربة مكانها نوع التحلل النتائج الرئيسية
تجربة “إل إتش سي بي” مصادم الهادرونات الكبير تحلل ميزون “بي” إلى ميون مطابقة تقريبية للنموذج القياسي مع أمل في دقة أكبر
تجربة “بيل 2” اليابان تحلل ميزون “بي” إلى كاون ونيوترينوات انحراف بسيط عن توقعات النموذج القياسي، غير مؤكد
تجربة “إن إيه 62” سيرن، سويسرا تحلل نادر للغاية للكاون معدل تحلل أعلى 50% من المتوقع، أندر تحلل رصد حتى الآن

يبقى مستقبل البحث العلمي معلقًا على تطوير أدوات ومصادمات متقدمة، مثل الترقية المزمع تنفيذها لتجربة “إل إتش سي بي” التي ستزيد من سرعة ودقة جمع البيانات عشر مرات، مما يعزز فرصة اكتشاف فيزياء ما وراء النموذج القياسي خلال العقود المقبلة. مع ذلك، لا تزال هناك تحديات تمويلية وسياسية وصناعية في طريق بناء مصادم أكبر، قادر على كشف الوجود الكامل للجسيمات الأساسية الجديدة التي تحوم وراء رؤيتنا الحالية.

يبقى الأمل معتمدًا على استمرار هذا الإصرار العلمي والتقني المتنامي، وسط أروقة مختبرات في أوروبا واليابان، حيث تُبذل جهود مضنية للوصول إلى تلك العوالم المجهولة التي تحمل أسرار المادة والكون، مما قد يعيد تشكيل فهمنا الحقيقي للواقع الذي نعيش فيه.