احتفال شعبي.. عمان دحبرها دحبرها في شوارع العاصمة الأردنية

عمّان، المدينة التي لا تكشف أسرارها دفعة واحدة، بل تبني علاقتها مع الزائر خطوة بخطوة، كانت أولى محطاتي في رحلة العام المنصرم. ليست مجرد عاصمة أردنية، بل مزيج من التاريخ والحياة اليومية يجعلها تترك بصمة عميقة. خلال زيارتي الثانية في يوليو الماضي، دعاني مهرجان الفيلم الدولي إلى استكشاف تفاصيلها، من خلال لقاءات عفوية ووجبات تكشف جوانبها الحقيقية، بعيدًا عن الواجهات السياحية السطحية.

المنسف كمدخل لفهم عمّان

في ذلك اليوم الحار، اقترح صديقي الناقد ناجح حسن التوجه إلى مطعم “دحبرها”، وكأن الاسم يحمل وعدًا بتجربة أصيلة. لم يكن الأمر مجرد وجبة، بل فرصة للتعمق في هوية المدينة. المكان بسيط، يركز على الجوهر دون زخارف، حيث يُقدم المنسف بلحم طري ينقع في الجميد القوي، مع أرز يمتص النكهات بتوازن مثالي. بينما كنا نأكل، انسابت محادثتنا نحو الكتابة والنقد، محولة الطعام إلى رمز للإصرار على الكمال، تمامًا كما تتعامل عمّان مع تراثها؛ لا تسمح بالتسرع، بل تطالب بالصبر لالتقاط الجوهر. هذه الوجبة غيرت نظرتي، إذ أصبحت المدينة في عينيّ طبقًا متعدد الطبقات يحتاج إلى وقت ليُذاق كاملاً.

تراكم التاريخ في تضاريس عمّان

عمّان تتوزع على جبالها كأنها سلسلة من القصص المترابطة، حيث يحمل كل تل اجتماعيًا حمولته الخاصة؛ جبل يحتفظ بذكريات فلسطينية، وآخر يعكس تراث العشائر، بينما يسعى ثالث للتوفيق بين التقاليد والضغوط الحديثة. هذا الانتشار ليس صدفة، بل يعبر عن دورها التاريخي كملاذ آمن قبل أن تصبح عاصمة رسمية، مما يجعل المشي في شوارعها رحلة عبر طبقات لم تغرق بعد في النسيان. في وسطها، يبرز المدرج الروماني كشاهد حي، يجمع بين أطلال فيلادلفيا القديمة ونشاط العاصمة المعاصرة؛ شباب يلتقطون الصور، وعمال يستريحون في ظله، في تداخل يجسد روح عمّان الحقيقية بين الفوضى الشعبية والإرث المتين.

لتوضيح هذا التداخل، إليك بعض العناصر البارزة في يومي في عمّان:

  • صعود جبل الحسين لإطلالة بانورامية على المدينة المتناثرة.
  • زيارة السوق الشعبي حيث تختلط الروائح والأصوات في لوحة حية.
  • الجلوس في مقهى تقليدي لسماع حكايات محلية عن التراث.
  • تذوق الخبز الطازج مع القهوة الصباحية تحت أشعة الشمس.
  • مشاهدة غروب الشمس من جبل اللويبدة، يلون المباني بالذهبي.

تعايش الوجوه المتنوعة في عمّان

في أتوبيس عام، قد يجلس بجانبك موظف حكومي ولاجئ وطالب، وكلٌ يحمل خلفيته دون حاجة للكشف؛ هنا يُمارس التنوع يوميًا بصمت، بعيدًا عن الشعارات، مدعومًا بقدرة على التحمل المشترك. عمّان مدينة النازحين الذين ينتظرون بكرامة، حيث تحمل كل ابتسامة قصة هجرة أو خسارة، مولدة قوة خفية تخترق الفوارق. في السوق الشعبي، صاحَبَني الكاتب رسمي محاسنة، فأذهلنا بائع يدّعي أصله المصري من الفيوم، لكن لهجته تفضح جذورًا فلسطينية؛ لم نكشفه، إذ يحمي الأسواق مثل هذه الألعاب الصغيرة، وتكشف اللهجات الحقيقة دائمًا. ثقافيًا، تكمن عمقها في الجلسات الهادئة، كتلك في مقهى أم كلثوم، حيث يلتقي الأدباء ليتبادلوا قصصًا عن مسارح قديمة وأغانٍ مشتركة، تربط المدينة بجيرانها دون ضجيج.

لتلخيص جوانب التعايش، يُظهر الجدول التالي بعض السمات اليومية:

الجانب الوصف
الاجتماعي مزيج من النازحين والسكان الأصليين في الحياة اليومية.
الثقافي جلسات هادئة تجمع الذاكرة الجماعية دون استعراض.
الاقتصادي أسواق شعبية تعتمد على التدبير والصبر اليومي.

في الصباح، تتسلل الشمس فوق الجبال، تملأ الشوارع برائحة الخبز والقهوة، ومع كل درجة صعود، تروى قصة عائلة عاشت هناك. تغرب الشمس فتصبح عمّان لوحة من الضوء، وتظل معك بعد الرحيل، محفورة في الذاكرة كالمنسف الذي يُؤكل ببطء، دحبرها دحبرها.